
يعتبر الأديب السعودي حسن البطران من رواد القصة القصيرة جدًّا في المملكة العربية السعودية وهو فن حديث له خصوصيته في التعبير عن الإنسان بهمومه وهواجسه وأفكاره في هذا العصر المليء بالصراعات والتحديات عبر الرمزية التي تعد ركيزة أساسية يعتمد عليها الكاتب البطران. وتعد مجموعة (مارية وربع من الدائرة) مثالًا حيًا على هذا الأسلوب السردي الفريد الذي يمزج بين الواقع والخيال المفعم بالإيحاء الذي يبرز لنا من العنوان نفسه الذي يحمل في طياته عمقًا رمزيًا يعكس معاناة الشخصيات في بحثها عمّا تبتغيه، فالجزء الأول كلمة (مارية) توحي بالرغبة التي تتجاوز حدود الواقع لتبحث عن أمل أوحالة من الكمال المفقود أما الجزء الثاني (ربع من الدائرة) يضيف بُعدًا آخر للعنوان؛ حيث يشير إلى شيء ناقص وغير مكتمل عبر رمزه للفجوة في حياة شخصيات المجموعة، وبحثهم على حلم بعيد المنال.
فتُجسد على سبيل المثال قصص الحزمة الثالثة :(شوكة أخرى _ خفة برائحة لبان_جاذبية وتيار هواء_جديد) صراعًا داخليًا قويًا بين الرغبة في الكمال، والعجز عن بلوغه، فتتصارع الشخصيات بين سعيها المستمر نحو تحقيق ما تتمناه، لتكتشف في النهاية عدم قدرتها على الوصول إليه عبر التوترات النفسية التي تمر بها الشخوص؛ والتي يكتشفها القارئ عن طريق التوصل إلى المعاني الخفية التي تعكسها النصوص بفكه الرموز في المتن السردي.
فالرمزية تمثل أساسًا في العلاقة بين الشخصيات، وعالمها الداخلي، كما نرى في العديد من القصص:
ففي قصة ص (29):
شوكة أخرى
أزاح الشوك عن طريقه..
مشى نحو الشاطئ فرأى سمكة ذات ألوان جاذبة،
مسكها ..أراد الرحيل بها ، تعثر..
سقط على الأرض
هربت السمكة، وأصابته شوكة في قدمه..نزف وعاد من طريق غير طريقه ..!
كرر القاص كلمة (الشوك) الذي يمثل الألم والمشقة والعقبات التي يواجهها الإنسان، و(السمكة) ذات الألوان الجاذبة الموحية إلى الجمال والإغراء، والتي تشير إلى الهروب والابتعاد عن الواقع، والحلم الذي انتهى نهاية مؤسفة مما نتج عنه انكسار الشخصية وضياعها.
إضافة إلى قصة (ص:30):
خفة برائحة لبان
حينما مسك رأس القارورة،
ساومهم على فتحها..
حاصره من يصرم التمر ويبيع العنب..اشتد عناده وأحرق جزءًا من الخيمة..!
نظروا إليه وعلوك (لبان) بين أسنانهم..!
ذكر الكاتب مفردة (لبان) مرتين في العنوان وخاتمة النص؛ للتأكيد بالرمزعلى ما ستؤول إليه حال الشخصية ونظرة المجتمع إليها بعد إصرارها على القيام بتصرفها الأخرق.
وفي قصة (ص:31):
جاذبية وتيار هواء
التحق بالسلك العسكري، تدرج فيه حتى منح رتبة عالية، نادى في القطاع الذي يرأسه: من يجيد تسلق الجبال..؟
لم يجبه أحد..
تخلى عن رتبته العسكرية، وبدأ في دورات تعلم الرماية والسباحة وتجاهل تعلم تسلق الجبال…!!
نجد الأديب يكررأيضًا جملة ( تسلق الجبال) والتي يرمز بها إلى ما يمليه المجتمع من أحلام على الإنسان دون الالتفات إلى ما يناسبه منها، وهل هي فعلا مايريد تحقيقه؟!
أما في نص (ص:32):
جديـد
تحسس نبضه، وجده مختلفًا عن المرات السابقة، سأل طبيبه..
أجابه الطبيب: هل غرست وردًا جديدًا…؟!
ورد (جديد) في إشارة قوية إلى حاجة الشخصية الملحة في البحث عمّا يحيي قلبها ويجدّد نبضها بعد محاولات عديدة؛ لبعثه من الموت المعنوي، وبعد سنين طويلة اتسمت بالرتابة.

ومن يتتبع هذه القصص الأربعة المنطوية تحت حزمة واحدة سيجد أن هناك رابط خفي بين الشخصيات التي تطورت في النصوص عبر سياق متسلسل؛ حيث بدأت بمواجهة (الشوك) الذي يعترض طريقها، ثم تتوالى التحديات ؛ لتنتهي الشخصيات إلى رغبة في تغيير وضعها الاجتماعي بحثًا عن الذات. إن هذا التطور يشير إلى الصراع الداخلي بين الأماني والطموحات من جهة، وبين الواقع المؤلم من جهة أخرى ، فتُطرح من خلاله أسئلة وجودية تتعلق بالمعنى الحقيقي للحياة، والرغبة في إيجاد الذات، والبحث عن مبتغاها، ومحاولة تحقيقه كما يظهر في سؤال الطبيب (هل غرست وردًا جديدًا؟).
كذلك في خضم الحديث عن هذه الحزمة لايمكننا إغفال الطبيعة في نصوص حسن البطران، فهي تمثل الفضاء الذي يتفاعل فيه الإنسان مع ذاته ومع محيطه: (الشاطئ،_السمكة_ الشوك_واللبان…) هي عناصر طبيعية تلعب دورًا مهمًا في تفسير الرموز، وتعكس ارتباط الشخصيات العميق ببيئتها، ولقد وظفها الأديب؛ لتصبح جزءًا أساسيًا من الصراع الذي تعيشه شخصياته السردية. كما نجد في النصوص نقدًا اجتماعيًا غير مباشر عبر امتزاج الأحداث مع الشخوص والرموز؛ والذي عكس هيمنة النظام الاجتماعي، وتقييده للأفراد، ومحاولاتهم كسره، وظهر ذلك في الهروب من السلك العسكري وتعلم السباحة والرماية في إشارة إلى رفض الهيمنة الاجتماعية، والسعي إلى الحرية الفردية.
إن مجموعة “مارية وربع من الدائرة” للمبدع حسن البطران نصوص غنية بالرمزية والتأويلات النفسية والاجتماعية والفلسفية قدمها البطران برؤية عميقة عما يعيشه الإنسان من صراعات داخلية وتحديات خارجية، فهذا العمل الأدبي هو استعارة لحالة اللااكتمال والتشتت التي تعيشها أبطاله، كما أنها دليل على التزام الأديب حسن البطران بإثراء الأدب العربي برؤى جديدة تتواءم مع الإنسان الباحث عن التجديد في هذا العصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ