عزيزي، يا صاحب الشَّيب الجميل:
أمَّا بعد،
أعيش في بلدٍ تستعجلُ شمسُه الرحيل فتهطلُ كآبتي باكرًا. وهذا يجعل الليلَ يفترشُ قلبي بِظلامه ويفترسُ بقايا الأمل.
فكيف تجري الأمور حيث أنت؟
هذا الفضاء الذي نلتقي فيه لِمامًا هو الكُوَّةُ الوحيدة التي ينفذ من خلالها وميضٌ يُشعرني ببعض امتلاءٍ وإن كان وهميًّا.
هل تفكِّرُ بِأهلك؟ بِوطنك؟ هل تشعر بالغربة حيث أنت؟ هل عندك أهلٌ أم أنَّهم جميعهم ماتوا أو اغتربوا؟
نعم، فالمغترب يصبح كالميْت، كالشبح بلا روح.
يخطر لي أحيانًا أنَّنا متشابهان حدَّ التطابُق، وأشطح في أمنياتي بأن أخبرك مثلًا عمَّا تعرَّضتُ له حتى تكسَّرتُ فتحجَّرتُ.. لِذا صرتُ قاسيةً بي جلفٌ.. ولم ألحظ منذ متى أصبحتُ كذلك. لكن حين يطلُّ وجهكَ على شاشة هاتفي في الاجتماعات المتباعدة، حين يطلُّ رأسك بخيوط الشيب الدافئة، أستكينُ وتتغلغلُ الحرارةُ شيئًا فشيئًا لتنتشر في عروقي وتعودَ إليَّ إنسانيتي وأنايَ المفقودة. وقد أثبتَ لي ذلك قولُكَ مُلاطفًا: “الأسود يليق بك”.. عنوان الرواية التي يعرفها معظمنا اتَّخذَ بُعدًا رائعًا آخرَ حين كتبتَه أنت تعليقًا على صورتي بفستاني الأسود.. فدبَّ نقاءُ الأبيض في روحي المنتهَكة.
هل تعلم أنَّ قلبًا أتعبَهُ شبابُه بات يبحثُ عن السكينة بين خصلات شعر كهلٍ كأنت؟
وأنَّ قلبًا أتعبه تلاعُب المُغترِّين بسنواتٍ ضئيلةٍ ليست شيئًا في حساب الزمن، بات يجد الأمان في صوتك؟
لِذا، وعلى سبيل الاحتياط، إقرأ كلَّ رسائلي _ حتى تلك التي لا أكتبها وتلك التي لا تصلك – على أنَّها: أحبُّك.
عقلي يُدرك جيِّدًا أنَّه ليس سوى إعجابٍ طفيف.
قلبي على يقينٍ أنَّ أحدًا لن يزوره بعدما هتكَه الشعراء، وأنَّه لن يستقبل أحدًا أساسًا بعد كلِّ تلك الشتاءات الهامدة التي مرَّت به إثر شتاءاتٍ سابقةٍ عصفت به حتى الموت جنونًا.
لكنَّ كياني يهتفُ باسمكَ الجديد الغريب ويهتفُ جذلًا بأنَّ إعجابًا طفيفًا قد يهزُّ شباكك أكثر ممَّا يفعل حبٌّ طاحنٌ، وقد يضخُّ حياةً في العروق الميتة.
لِذا أرجو ألَّا أشعرَ بذلك اللطف كلِّه في القادم من الأيام وألَّا يقتحمني أيُّ تعليقٍ لطيفٍ لك؛ فالأبيض هو ما يليق بي لأنَّ الحُبَّ لم يُلبِسني سوى السواد، وأنا لستُ على استعدادٍ أن أخسرك أو أفقد هذه الخفقات الجديدة التي تختلجُ في قلبي.
عزيزي، يا صاحبَ الشَّيبِ الجميل:
فلنبقَ أصدقاء.
المنامة: ١٤/ أيلول/ ٢٠٢٣