د. علي حجازي
عند العاشرة من هذا اليوم الكوروني الطويل غادرت البيت الذي شعرت فيه بالاختناق بعد عودتي من بيتنا في بيروت الذي تحوّل سجناً في ظلّ أمر منع التجوّل، فهذا السجن المسمّى حجراً قاتلٌ للروح وللجسد معاً، أكان في المدينة أم في القرية
مشيت، لا أقصد مكاناً بعينه، غايتي الأولى كسر سلاسل هذا المنفى الجديد. وبينَ أنا أمشي وحيداً في الشارع الخالي من السيارات، إلّا من بعض المحظوظين الحاصلين على البنزين، التفتّ إلى صحن دار صديقي الأستاذ طارق، فأبصرتُ رجلاً جالساً على كرسيّ، عيناه معلقتان على الشجرات. شعر رأسه طويل يغطي رقبته والجزء العلوي من وجهه، في حين أكمل فيه شعر اللحية السير تجاه الهزيع الأخير من الصدر، لم ينتبه لوجودي، بدا غريباً عن هذا العالم. “مَنْ هذا الشخص يا ترى؟ فهذا بيت صديقي صاحب الهمّة العالية والطلّة البهيّة، على كلّ سأكلّمه، وأسأله عنه (همست)
صباح الخير
لم يجب، كأنّه لم يسمع، على كلٍّ سأكرر التحيّة، قلت
صباح الخير يا جار
أيّ خير يرتجى بعدُ في هذا الصباح، وغيره من الصباحات والمساءات والليالي المظلمات، يا صديقي. تفضّل، فأنا في أمسِّ الحاجة إليك
مَن؟ الأستاذ طارق؟
بشحمه ولحمه وشعره الأشعث ولحيته التي تطاولت إلى صدر يده في زمنٍ تبدّلت فيه المقاييس، وانقلبت الموازين. تفضّل فأنا في أمسّ الحاجة إليك
إلامَ تحتاج قل؟
أطلب إليك أن تهديني كتاباً يعلَّمني البكاء
لم ينتظر جوابي، وتابع
فقد جفّت الدموع في مآقييّ، قل اشتعلت غضباً، ثمّ احترقت
دنوت منه، مسَّدت يدي كتفه، وأخذت أنظر إلى حيث ينظر
كانت حديقة منزله الصغيرة حزينة جدّاً، شجراتها مشرعة أغصانها اليابسة إلى السماء تشكو إليها عطشاً شديداً أصابها. كانت تبتهل إلى الله تدعوه أن يمنحها مطراً. حانت مني نظرة مشحونة بالحزن إلى الورود والمزروعات فألفيتها تشارك الشجرات ابتهالاتها، راحت تشرّع أغصانها وأطباقها وبتلاتها إلى السماء هي الأخرى
دنوت منها، من جذوعها، من أغصانها، من أوراقها الصفر، فسمعت حفيف دعاء، كانت تدعو الله أن ينتقم من أولئك الذين قطعوا المياه في هذا المناخ القائظ “يا الله، للمرة الأولى أسمع نجوى الشجر بمثل هذا النقاء”. وسرعان ما رحت أتفقّد تلك الأزاهير التي غرسها في هذه الحديقة البائسة. كانت شاحبةً تشبه مريضاً على فراش الموت، دنوت من زهيراتٍ، لامستها بيدي، وجدتها تبكي مثل يتيم مُسِّدَ على رأسه. كان صوت موتها مبحوحاً
تبعته إلى البيت، ملبياً دعوته، فكّرت أن أفتح الثلاجة المتهالكة التي بات هدير محرَّكها مسموعاً إلى البعيد، شددته، بقوة شددت ولمّا انفتح، تمنّيتُ أن يبقي مغلقاً، لأنّ شبه الثلاجة تلك كانت فاغرة فاها على خواء، تصفر، لا شيء فيها أبداً
حدّق إليّ متعجباً
ما الذي تفعله؟
كان الصمت يلفّني من رأسي الذي فقد عدداً كبيراً من شعره إلى أخمص قدمي اللتين أحسُّهما الآن تصطكان. توجّهت إلى حيث يتحلّق الأطفال، حول قدر معلّق على أثافي تحتضن الحطب المشتعل، بسبب فقدان الغاز، بدت الأمّ منشغلة بتحضير الطعام
أبصرتها تضيف البصل الذي غادرتني رائحته منذ تسعة أشهر، أي منذ ذلك اليوم الذي أصبت فيه بالكورونا وفقدت فيه حاسة الشمِّ
حدّقت إلى أحذية أولاده المرتّبة عند الباب فوجدتها فاغرةً تمدّ ألسنتها من مقدمات تشققت. هذه الجولة القصيرة ضاعفت حزني، فأسرعت أدعوه إلى صحن الدار، ولمّا كرّر طلبه الأوّل: علّمني البكاء أجبته:
بل سأعلمك الضحك والبكاء معاً
كيف يمتزج الحزن بالفرح، ومتى، قل لي؟
عندما تبصر القصور مشعشعة وبيتك تأكله العتمة، وكلاب القصور متخمة وأولادك يتضورون جوعاً. وهم يتحلّقون حولَ قدرٍ نحاسيٍّ قديم معلّق على نار موقد متهالك، وعندما تبصر محتكري الطحين والأدوية والمحروقات عليك، وعندما يسألك مغتربٌ عائدٌ من “عنده” وهذه العبارة:” عنّا هونيك كلّ شي مأمّن (مؤمن) ” ” كم دولار يساوي راتبك”؟ صار لزاماً عليك بل علينا أن نفتّش عن أي مادة تثير اللهب في قصور
وعندما تكحل عينيك بهذا المشهد يبدأ الدمع المتجمِّد في مآقيك بالذوبان، عندها تضحك كثيراً ثم تبكي، تضحك وتبكي، تبكي وتضحك
نعم ستصيبك نوبات ضحك ممزوجة ببكاء، فلا تخف، فعندما ترى النيران متأججة في القصور الفارهة، وأولادهم يُهرعون من اللهيب، وكلابهم التي بطرت من أكل اللحم الذي ضيع طريق بيوتنا منذ زمن، عندها ستصاب بتلك الحال
ربما (تدبك) ترقص، تغنّي
لا أحسنُ الغناء (قال)
استعن بآلة تسجيل. انتفض، قم شد حيلك
سرعان ما أبصرتُ ضحكةً خفيفةً ارتسمت على وجهه الذي غادره الضحك منذ زمن، ثم أبصرت دمعاً شفيفاً اعتلى رموشه مثل كرات بلّوريّة صرخت: ما أكرمك يا الله، بدأ المحيط المتجمّد بالذوبان
على كلٍّ، لن تقوم بهذه المهمة النبيلة وحدك، سأطلق الآن النداء، ونتجمّع وننطلق معاً
نعم فلهيب النيران في قصور الزعران تذيب محيطات الدمع المتجمّدة في مآقي عيون الفقراء من الأهل والجيران، نعم نعم نعم
22/6/2022
غرفة 19
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل
تعليقات 1