ماري القصّيفي
من زمن كنت أكتب فيه باسم مستعار هو مي م. الريحاني
١٩٩٠ – صحيفة الديار
****
على عتبة الثّلاثين… هل أقرع الباب؟
أن تصل إلى عمر الثّلاثين، فهذا أمر رائع… أنت إذًا ناضج وواعٍ، وقد حصّلت حتمًا قدرًا مهمًا من الثّقافة، ورأيت جزءًا غير قليل من العالم، وتعرّفت إلى حضارته وعلومه وفنونه. أمّا أن تصل اليوم إلى عمر الثّلاثين، وفي لبنان بالذّات، فهو أمر يجعلك تختنق، ويكاد نفسك ينقطع، ولولا رغبته تعالى في إطالة طريق جلجلتك، لتوقّف قلبك عن الخفقان. أن تصل إلى الثّلاثين فهذا يعني أوّلاً أنّك عشت نصف سنيك في حالة حرب، وتحت الدّمار وبين الملاجئ. وهذا يعني استطرادًا أنّ القنّاص قد أخطأك هدفًا، وأنّ القذيفة غيّرت رأيها عن اختيارك، وأنّ السّيّارة المفخّخة لم تتوقّف، لحسن حظّك أو لسوئه ربّما، إلى جانب سيّارتك عندما انفجرت ـ لوحدها، انفجرت طبعًا ـ وهل قال أحدهم إنّه قام بالتّفجير؟
أن تصل إلى الثّلاثين في لبنان، واليوم بالذّات، عمل لا بطولة فيه ولا شجاعة بل صدفة. والصّدفة فقط هي التي جعلتك “تزمط” إلى هذا العمر
أن تكون في الثّلاثين اليوم يعني أنّك لم تسافر مرّة سائحًا، وإن حصل وقدّر لك الوصول إلى قبرص أو إلى الشّام فبهدف الحصول على تأشيرة سفر إلى عوالم أخرى قد تستطيع فيها الوصول بأمان، وقد يخيّل لك هذا، إلى ما فوق الثّلاثين
وهذا يعني أيضًا أنّك لم تشترِ كتابًا ذا قيمة، ولم تحصل على سيّارة تتابع معك الطّريق الذي اخترته أنت، بل سيّارة تعاملك على أساس أنّها أغلى منك ثمنًا وإنّ مصاريفها أهم من مصروفك، فبأي حقّ تتفلسف عليها؟
وهذا يعني أيضًا وأيضًا أنّك لم تجرؤ على أن تحلم بشراء شقة، ولا باستئجار واحدة طبعًا، لأنّ الأحلام إن صارت خالية من المنطق تمامًا تحوّلت إلى ما يشبه قصص سوبرمان وسندريلّا، وفي أحلامنا تكاد تنعدم شجاعة الفرسان ويخفت صوت الحبّ
أن تكون اليوم في الثّلاثين معناه أنّ وظيفة ما قد اختارتك وفرضت نفسها عليك وألزمتك بحمل صليبها وقالت لك: اتبعني
فإن قادتك إلى وظيفة الدّولة وقعت بين سندان شرعيّة ومطرقة أخرى، وإن، إلى وظيفة في شركة خاصّة فأنت تصلّي الآن كي لا يسافر ربّ العمل ويقطع عنك الرّزق والأمل. أمّا إن قادتك الدّرب إلى رسالة إنسانيّة كالتّعليم أو التّمريض أو الصّحافة، فلا داعي لأخبارك عمّا سيجري لك لأنّك لن تصمد كثيرًا بعد الثّلاثين
لو حملت بدل هذا “الصّليب” “كشّة”، على عادة أوائل المغتربين اللّبنانيّين، وتاجرت في بلدك لاستفدت واستمتعت برحلةٍ سياحيّةٍ ولرأيت معالمه وأثاره، ولتعلّقت به أكثر
أن تكون اليوم في الثّلاثين معناه أنّك لم تتزوّج طبعًا. وإن كنت قد أحببت فاسمح لي برسم علامة تعجّب كبيرة. كيف تجرؤ أن تحبّ إنسانًا في هذا الزّمن؟ ألم تفكّر أنّه قد يموت مستشهدًا تاركًا لك الحسرة والألم؟ ألم تفكّر أنّ خطوط الهاتف قد تنقطع بين بيتك وبيت الحبيب، فلا تتناجيان ولا تتشاجران ولا تتراضيان؟
ألم يخطر على بالك أنّ المعابر القديمة والمستحدثة والرّصاص والقذائف ستفصل بينكما وتجعل من كلّ واحد منكما إن حاولتما اللّقاء “شهيدة الحبّ، شهيدة نعمان الما إلو أمان…”
كيف تحبّ يا صديقي في هذه الأيّام؟ قد تكون اليوم على جبهة واحدة وقد تتواجهان غدًا على الجبهة نفسها. قد يجمعكما حزب واحد، ومتى انقسم الحزب انقسمتما معه… وأي حزب لم ينقسم؟ قد تتحابّان إلى نهاية العمر ولن تقدرا على الاجتماع تحت سقف واحد… وإن اجتمعتما… من يدري فقد ينهار السّقف عليكما في لحظة من لحظات وقف إطلاق النّار
أن تكون اليوم في الثّلاثين معناه أنّك صلّيت كثيرًا، وبكيت كثيرًا، وتوقّعت الموت يوميًّا، ووقفت أمام الأفران لساعات، وتعوّدت يداك حمل أوعية المياه، وعيناك ضوء الشّموع، وأذناك صوت الموتير، من عند الجيران طبعًا
أن تكون في الثّلاثين في هذا البلد، وعلى عكس بلاد العالم كلّها، معناه أنّك فرغت من الأحلام، وكبرت على الحبّ، وعجزت عن العمل، وصرت تخجل من الاحتفال بعيد مولدك، فلا أنت قادر على شراء الحلوى ولا الأصدقاء قادرون على معايدتك
أمّا إن أردت تحدّي الحرب والدّمار والثّلاثين سنة، والنّهاية… فاحتفل… وليكن ذلك ليلًا، لا عن شاعريّة وحميميّة، بل لتستفيد من أضواء الشّموع أوّلًا، ولكي يقلّ عدد الزّائرين ثانيًا. واطلب بما لك من دالّة على أصدقائك أن يأتوك بهدايا من بطّاريّات الرّاديو وقناني المياه، أو من الخضار والفاكهة، وليوضّبوها داخل ورق جرائد صادرة حديثًا، لعلّك تستفيد من مطالعتها بعد إن عجزت عن شرائها، وإن كانت أجنبيّة عرفت ماذا يحدث في العالم في ذكرى مولدك وماذا يخطّط لوطنك
على عتبة الثّلاثين أنا، وبرودة الأيّام المقبلة مخيفة
فالطّريق أمست خالية من الوجوه الأليفة، بعضها رحل، وبعضها فقد الحياة… كيف ستكون الأيّام بعد الثّلاثين في هذا البلد، ولمن يرفض الرّحيل ويحاول التّشبّث بالحياة؟
ليت أحدكم يملك جوابًا
ميّ م. الرّيحاني
جريدة “الدّيار” الجمعة 18 أيّار 1990
“عيون بالمرصاد”