جميل داري
عن بيروتَ
كانتْ حلبجةُ مثلَ بيروتٍ
تنامُ على سريرٍ من دمِ الفقراءِ
في غابِ الأسرّهْ
من أينَ أبدأُ والبداياتُ الجميلةُ ميتةٌ
بل كيفَ أنهي والنّهاياتُ الذّبيحةُ حيّةٌ
إنّي أراوحُ في مكانٍ فوقَ جمرهْ
كانتْ تباغتُني مساءً
لم أكنْ أدري بأنّ جموعَنا- نحنُ الرّفاقَ
سترتقي عرشَ الدّماءِ
سأعودُ محمولاً على كفنِ القصيدةِ
ولتكنْ كلُّ القصائدِ في رثائي
أو في التغزّلِ بالفناءِ
يا صاحبي
أنتَ الذي دجّجتَ بالصمتِ المخيفِ صراخَنا
أنتَ الذي حلّلتَ سفكي
يا صاحبي المشلولَ.. يا رجلاً
على عكّازةِ التّاريخِ يستبكي ويبكي
1988
قبل أن أعرف بيروت في قصائد الشعراء عرفتها وجهاً لوجه قبل الحرب الأهليّة وبعدها، وعرفتها أيام الغزو الإسرائيليّ صيف 1982 في أثناء انتحار خليل حاوي
عند قصف حلبجة بالكيماويّ كنت في عامودا 1988، وكتبت نصي الطويل “إنّ القرى لم تنتظرْ شهداءَها”. ورأيت اسم بيروت في النصّ، وسُئلت، وسألت نفسي : ما العلاقة بين حلبجة وبيروت؟ السؤال هنا يحتاج إلى شرح طويل ليس مجاله الآن
يوم تفجير مرفأ بيروت تأكّد لي من جديد أنّ المجرم واحد، والضحيّة واحدة
إنّه القاتل نفسه الذي قتل لوركا، والذي كتب فيه حامد بدرخان نصّه “أفتّش عن قاتل لوركا”
لو عوقب من ارتكب مجزرة حلبجة لما وقعت مجزرة بيروت
ناظم حكمت يقول: قلبي ينبضُ مع أبعدِ نجمٍ
تلكم هي الإنسانيّة في أسمى تجلّياتها
في قصة معبّرة لمكسيم غوركي أنّ امرأة كانت تكنس، وتنظّف أمام بيتها لترى في اليوم الثاني الأوساخ متراكمة ، فعرفتْ أنّها تأتي بفعل الريح من بيوت الجيران القريبة. طلبت منهم أن يفعلوا مثلها في تنظيف شوارعهم، ففعلوا جميعاً
ظلت الأوساخ تأتيهم من أماكن ومدن بعيدة ، حينذاك أدركت المرأة أنّ جهودها في كنس الأوساخ ذهبت هدراً ، فعلى جميع مدن العالم أن تغدو نظيفة كي يبقى أمام بيتها نظيفاً
أُعلن أنّ بيروت مدينة منكوبة، وهي التي كان يلوذ بها المنكوبون
لاذ بها الأدباء الأحرار منذ منتصف الخمسينيّات حتى بداية السبعينيّات من القرن المنصرم
لاذ بها العمال والفقراء السوريون وعملوا في البور “المرفأ المنكوب”
ما من شاعر إلّا وتغنّى بها من نزار قباني إلى أدونيس إلى محمود درويش، وبفضلها تنفسوا الحرّية ،ونهلوا منها الضوء
آخر دواوين أدونيس “بيروتُ ثدياً للضّوءِ”
هل ارتكب خطأ أو خطيئة حين لم يقل: قصّابينُ ثدياً للضّوءِ؟
قصّابين لمن لا يعرف هو اسم ضيعته في ريف جبلة
قال في أجمل قصائده “الوقت” 1982 بعد الغزو الإسرائيليّ للبنان
كما تدخلُ قَصّابينُ في خارطةِ
العشْبِ، وتَسْتَقْطِرُ أحشاءَ السّهولْ
دخلَتْ بيروتُ في خارطةِ الموتِ قبورٌ
كالبساتينِ وأشلاءٌ حقولْ
ما الذي يسكبُ قصّابينَ في صيدا وفي صورٍ
وبيروتُ التي تَنسكبُ؟
ما الذي في بُعدِه يقتربُ؟
تشي غيفارا الأرجنتينيّ الذي ساهم مع كاسترو الكوبيّ في إشعال الثورة الكوبيّة لم يستكن للمناصب التي ضاق بها ذرعاً، فانطلق إلى أفريقيا وثوراتها، وصار رمزاً للشباب الثائر في كلّ مكان حتى يومنا هذا
هناك من يزعجه البكاء على بيروت، ويرى أنّ البكاء على مدينته أولى وأسمى
أيها القزم دم قزماً، ولا تفكّر بغيرِكَ كما فكّر محمود درويش ذات قصيدة
وأنتَ تفكّرُ بالآخرينَ البعيدينَ، فكِّرْ بنفسِكَ
قُلْ: ليتني شمعةُ في الظّلامْ
ما أسهل على النبيل أن يفكّر بالآخرين البعيدين، ويجعل نفسه شمعة لتبديد ما يقدر من ظلام. وما أصعب ذلك على اللئيم
…
لأنَّ عينيكِ في الأحزانِ بيروتُ
فكلُّ شيءٍ سوى عينيكِ ممقوتُ
..
إنّي تهشّمني أحزانُ قافيتي
كأنّني حلمٌ في الصّخرِ منحوتُ
…
كلُّ المدائنِ في عينيَّ من حجرٍ
ووحدَها في مرايا القلبِ ياقوتُ
…
منكوبةٌ هذهِ الشّمّاءُ، جائعةٌ
ومنذُ مسغبتي كانَتْ هيَ القوتُ
…
فكيفَ أنسى التي قد أرضعَتْ ظمئي
لا يُنكرُ العُرفَ إلّا الجاحدُ الحوتُ
…
بنى محامدَها قومٌ جهابذةٌ
وها يدمّرُها قومٌ طواغيتُ
…
عيناكِ وحدَهما إشعالُ أجنحتي
مهما تكدّسَ في قلبي التوابيتُ