الزمن: سبعة آلاف سنة قبل الميلاد… (قبضه ملاك من كتفيه وطار به إلى بوابة جهنم) يشعر أنه مجرد فريسة، وأن تلك اليد مخالب غرست في قلبه، بل دمرت كبرياءه…
في التراث الغربي اسمه فريموت… وفي التراث الفارسي: يُدعى ذو القدمين الطولتين، يجلس في المناطق النائية ويدّعي أنه عجوز أو امرأة لا تستطيع المشي، وتطلب المساعدة، وعندما يحملها الإنسان على كتفيه تلف قدميها حول عنقه وتستعبده ليعمل خادماً عندها حتى يموت.
هيئته كهيئة إنسان عندما يلتقي البشر، ولكن يتحول إلى رأس ماعز وعين أفعى، وتصبح أطرافه حوافر حين يصعد على أكتاف البشر ويريد إخافتهم
أراد رميه ذلك الملاك في وسط جهنم، ولكن غيّر هيئته إلى رجل، فوضعه على أحد البوابات، حتى يروى الحراس أين يضعونه.
بعد أيام على سطح الأرض… أحد ناهبي الكنوز قدّم أضحية بشرية، ووجد كتاب الموتى الذي يستحضر بعض الشياطين، وكان اسمه مكتوباً، فاستحضره بالتحديد، وأعاده إلى الأرض.
كان (مستحضره) مجرد رجل ساذج، لم يعرف من طلب وكيف يسخّره. يا للهول ـ قالها الشيطان ـ أنا ومن أنا يجعلني عبداً له! قالها بتعجب عتيد، فقد عاش ثمانمائة عام متتالية وهو يستعبد البشر، أراد شكر الرجل الذي أعاده إلى الأرض، ولكن شكره على طريقته، وكان شكره هو قتله قتلاً سريعاً.
في البداية… وكما كان في الماضي، يتشكل على الهيئة التي تجعل الناس تساعده، وقرر ـ كعادته ـ أن يكون رجلاً عجوزاً، ولكن لم يبالِ أحد بمساعدته، بل كل من اقترب منه وضع في يده بعض الوريقات.
المدينة مزدحمة بل مكتظة تكاد تموت اختناقاً من كثرة الناس… من مجرد بعض الشجيرات المترامية إلى طرق سوداء تشبه الثعابين، تسير عليها أكوام من الحديد تحمل عيوناً مضيئة.
صحيح أنه بقي عدة أيام على بوابة جهنم، ولكن اليوم هناك كألف عام على الأرض.
بعد تفكير مجهد قرر أن يتحول إلى امرأة، فقد وجد رجالاً كثيرين في المدينة، واعتقد ـ بتفكيره الذي لم يتطور لآلاف السنين ـ أنه عندما يتحول إلى امرأة جميلة، سوف يهتم بها الرجال.
ولكن المشكلة هي أنه بجانب كل هذا الجمال، ليست مثيرة للاهتمام، فليس لديها أسلوب في الكلام، وكذلك وقحة وعدوانية ومتجهمة طوال الوقت. ظن ذلك الشيطان أنه عندما يتحول إلى امرأة، فإن الرجال سوف يتغاضون عن كل هذا فقط لأنهم بصحبة امرأة جميلة، وسوف يكمل مسيرة استعباده للبشر حتى الموت.
ولكن الأمر المثير للسخرية أن كل من حادثه وهو متحول إلى أنثى، يتنصل في لحظات منه بطريقة غريبة، بسبب أسلوبه.
ولأنه عفريت عملي، يعرف كيف يعمل العالم، لا يمكن أن يبقى على شخصية واحدة، فتحول إلى شاب ليجرب حظه هذه المرة، واشتاق إلى مكانه القديم، ولكن وجد بناءً عظيماً، ورجلاً كبيراً في السن، لا يكاد يرى، طلب أن يساعده في حمل بعض الصناديق إلى داخل المنزل.
حينها رأى أنها فرصة ليدرس عالم البشر، ولأنه كما قيل ـ يستريح المرء في كل موطن يشبهه ـ وجد على الجدار لوحة آشورية بارزة من نمرود يعود تاريخها إلى القرن السابع قبل الميلاد… لوحته التي كان يقتل عليها ضحاياه الذين ملّ منهم، فتبسّم لهذه المصادفة، وعلم أنها بشرى خير.
عرض على سيد المنزل أن يعمل عنده، ففتح له غرفة، وجعل يتأمل لوحة رسمت تحتها في ورق باهت رخيص، وقع تحته باسم “جامع العلوم والحكم”.
مرّ شاب بجواره، ناداه فلم يجبه، رغم أن عليه سمت الصلاح، دخل المنزل وجعل يراقبه من خلال النافذة، وجد الجميع على طاولة الطعام الخشبية ينتظرونه.
وهو يتحدث إلى قطعة بيضاء يلصقها بإحدى أذنيه، وفي ذات الوقت يتأفف من تكرر طعام المائدة الذي لم يتذوقه!
قدمت إليه الأم أحسن ما في الطبق، فجمع بعده كل اللحم المتبقي، وهو يهمس أنا اوفر لكم عناء أكل شيء لا تحبونه, رغم أن اللحم كان قليلاً.
سألته أمه ماذا صنع، فقال إنه جمع الناس كلهم وأخرجهم من منازلهم، ليصفوا بعده للصلاة، فلا يركع أحد إلا بعده ولم يسجد إلا بعده حتى انتهى الناس من الصلاة وانصرفوا إلى منازلهم آمنين.
أخته الصغرى طلبت منه أن تجلس معه، تريد أن تحدثه في موضوع ما، فأخبرها أنه مشغول جداً جداً، فلديه منهج يريد أن يخرج الناس من الضلالة إلى النور، ففيه كل الهدى الذي غفلوا عنه، وإن لم يتبعوه هلكوا.
توقف وطلب من إخوته التصفيق، فلم يصفق أحد، فهو يأخذ ولا يعطي بل يسرق، وبما أنه كما قال أصبح يخرج الناس من الظلمات إلى النور، طالبته أخته أنه بدينها فقد أدانته مبلغاً كبيراً من المال ورفض أن يعيده إليها، لأنه وقف مع عامل يصلح لها بعض الإضاءة في المنزل، لم يظهر في ملامحه أي ندم أو إنكار، بل همس أن كل المبدعين مضطهدون!
همس الشيطان: هذا هو المطلوب، فسوف أتعلم منه كل شيء عن البشر في هذا الوقت وأعود وأصعد على رقابهم. وقد صدق، فهذا الرجل بلغ من النرجسية أنه مصاب بالتأليه الذاتي، وهي مرحلة قصوى من النرجسية المتضخمة، حيث يعامل الفرد نفسه ككيان لا يخطئ، ويعتبر ذاته مصدر الحقيقة النهائية.
قام الشيطان بطرد قرين ذلك الشاب، ليتعلم كيف هي أفكار هذا الزمان، وبدأ يستمع له ولا يوسوس، فالوسوسة للناس الصالحين، أما هذا الشاب فهو طالح حتى العظم ـ ملعون مثله في فكره وأخلاقه.
بدأ يخطط غبور الجديد ـ هكذا أسماه الشيطان ـ بصنع تجارب على أسرته، كيف يدمر أسرته ليتربع على عرشها من جديد، فقد ذاق الويلات والذل الشديد في صغره، والآن أتى وقت الانتقام.
هذا المجتمع يشبه بعضه البعض: يكون الأب غائباً تربوياً، والأم متسلطة، وبالتالي في التربية تكون الأخت الكبرى منفصلة نفسياً وأخلاقياً، والأخت الوسطى تكون مترددة وخجولة، أما الأخ الأصغر فمراهق مهما بلغ من العمر، وإن تزوج فسيختار ـ لعدم نضجه ـ طفلة لعوب، وهذا الآن هو واقع أسرته.
أراد أن يقترح عليه الشيطان، ولكن تراجع، تراجع الطالب الذي يريد أن يتعلم من معلمه الخبير.
وهذا ما قام به: بدأ ينتقد أخته الكبرى في أخلاقها أمام الجميع ويضيّق عليها مساحتها الشخصية، حتى رأت أن المنزل جحيماً فخرجت منه. أما الوسطى، فجعل يستفزها في كل مرة مثل المراهق المتنمر الذي لم يجد من يضربه ضرباً مبرحاً ليعلم أين هي حدوده.
وأخيراً جعل يضايق زوجة أخيه في اجتماعاتهم الأسرية، ويهز ويلمز بأنها هي المشكلة في تفكك هذه العائلة، وأخوه يتحاشاها، فهو لم يتعود في حياته على المواجهة.
وأمه تقف في صفه في الخطأ قبل الصواب ـ حتى في ضربه لأبناء أخته ـ وأخبرتهم أن الخال والد، ولكن لم يضربهم لخطأ، ضربهم لأنه لا يجيد الحوار، وقد أشعروه أنه يحفظ دون أن يفهم.
جعل الشيطان يتأمل حال المجتمع الجديد ويضرب كفاً على كف، فأين هي الرجولة والمروءة؟ وهل هذا حال المصلحين؟ جعل يفكر الشيطان أنه انتقل إلى جهنم ولكن في دَرَكة ليس فيها عذاب، بل محكوم عليه بالجنون… ولكن الفضول دفعه إلى الاستمرار.
لا يعلم ذلك الشيطان المشاكل النفسية في هذا العصر، فهذه الأم لأنها لم تحب زوجها اتخذت ابنها زوجاً بديلاً. ففي علم النفس، الأم عندما لا تستطيع أن تحب زوجها قد تُسقط صورة الزوج على الابن، فقد تكرر على مسامعه مئات المرات في طفولته قول أمه له: “أنت سندي… أنت الرجل الذي أفتخر به… لولاك ما كنت صبرت”. وهي لا تعلم أنها تنقل الحب إلى الضفة الخاطئة.
فبدلاً من أن يكون لدى ابنها شخصية رجولية، أصبح لديه ارتباك في الهوية الذكورية السوية، لم يستطع بناء رجولته بشكل حر، بل بناها على صورة “الزوج المساند للأم”.
حتى في طريقة اختياره لزوجاته: كن شبيهات لأمه، فهو يميل لاختيار نساء يشبهن الأم نفسياً: محتاجات، ضعيفات، أو دراميات، لأن دوره المألوف هو الإنقاذ.
ولكن ولأن من نتائج تربيته أنه أصبح أنانياً لعوباً يحب الغياب، جعل ينتقل من امرأة إلى أخرى، ويظن في كل مرة أنه مرغوب، لأن النساء يقبلن به بسهولة ـ وهو لا يعمل ـ وهو ينتقي نساء لهن مواصفات محدد قد درسها بعناية، حتى يقبلن به, دون رفض.
هؤلاء النساء لا يصلحن حتى عشيقات، لسوء تعاملهم، وتشوه أفكارهم، ووقاحة ألفاظهم. وقد هرب الجمال من ملاحهم وأشكال أجسادهم بلا رجعة، فالرجال يرونهم بقايا سلافة، والسلافة بقايا العنب في الكأس، الذي تعفن فلا هو خمر يشرب, ولا هو عصير يستطاب ـ بل عفن على عفن ـ حتى البهائم تتحاشى الاقتراب منه.
هو يختار أن يتزوج هؤلاء النساء، ويعيش معهم دور البطل المنقذ، ولكنه يظن أنه مهما بلغت إساءته لهن فلن يتركنه، لأن أمه ربّته على أنه ليس فقط ابنًا… بل الرجل الأهم في حياتها، ولا تستطيع فراقه أو اغضابه, وهو يظن أن نساءه سوف يعاملنه بذات الطريقة، وعليهن أن يضحين فقط لأجل إسعاده دون مقابل فهو العشيق الذي يجعل مشاعرهم تغني من السعادة, وهو المخلص لهم من آلامهم, وصاحب المكانة والنفوذ, والعلم الزاخر.
لو رأيته لا تفرق بينه وبين المرضى النفسيين الهاربين من ذويهم, الذي ينامون تحت الكباري, وفي أزقة الحواري، أو حتى المتسولين على أبواب المساجد، ولكن أقرب شكل له أنه مشعوذ يهودي… جسده ضئيل, جاف من اللحم, وجبهته صغيرة حتى تشعر أنه بلا عقل, وعينه ضيقة إذا ألتقت عينك بعينه, تشعر أنه سوف ينتقم منك بلا أسباب, خده ضامر كالمسجونين في الزنازين الانفرادية الذي لم يستطع القانون أن يحد من عصبيتهم واجرامهم، وشفتاه نحيلة جدا حتى لا يكاد أن ينطق بكلمة فيها شعور, باختصار ملامحه ملامح مجرم أو مريض نفسياً أو مشعوذ وقد ارتدى لحية على وجه، وأدعى التدين حتى يصنع ما يشاء باسم الدين, ويعيث في الأرض فساداً.
أوهام القبول النساء له… انتقلت لكل علاقاته، حتى مع الرجال، أن يتقبلوه كما هو بجنونه, وأراه الشاذة وعليهم كذلك أن يرونهالرجل الأهم، وبما أنه أصبح خطيباً للجمعة، فقد أصبح الرجل المخلص… كلمة الله على الأرض، وقد تبنّى باطنياً الحركة البطريركية الأبوية، بما يسمى حديثاً “الحبكة الحمراء”، ليدمر الأسر في كل خطبة جمعة يلقيها، ويزيد أتباعه.
تمرن جيداً حتى أصبح لديه نبرة واعظ، بصوت مشفق، وهدوء أخ حنون، وقرب صديق محب… حتى أصبح ساحر الكلمة وأستاذها.
أول خطبة جمعة ألقاها كانت “العطاء”، وعنوانها ـ غريب عجيب مرعب ـ لم يسبقه إليه أحد، عنوانها: “رسالة من قاع البئر”… يذكر فيها ـ بأسلوب بسيط ولكنه مقنع جداً ـ أنه كان شخصاً يساعد أخته باستمرار، ويعطيها مالاً أكثر مما يكون الراتب.
في يوم من الأيام، أصيب بحادث، ونجا من الموت بأعجوبة، وتبين من التحقيقات أن الحادث مدبر، ولكن المفاجأة أن من دبره هي أقرب الناس إليه… أخته! نعم، أخته، فقد ملت مما تراه صدقات، رغم أنه ماله الخاص، فدبرت هذا الحادث ليموت وترثه!
نظر إلى الأرض ـ غبور الجديد بألم مبالغ فيه ـ ثم رفع رأسه وهو يتنهد من الأسف، ثم ذكر قصة في سياق قصة يعرفها شخصياً بأن أختاً سحرت أخاها العقيم، لتستولي على ماله.
ولكي يُنسي الناس الرسالة المباشرة من القصتين، وهي قطع المال عن الأقارب، جعل يذكر أن العطاء بشكل مفرط يوقفهم، فبدلاً من أن ينموا أصبحوا يتلقون، وبذلك يكرهون العمل.
ثم صمت صمتاً طويلا وجعل ينظر في الجمهور وقال بحده وكأنه ينظر في عيونهم، وخاطبهم كأنه يخاطب رجلاً واحداً “بما أنك دمرت مصير أقاربك، فسيدمُر مصيرك”.
لهم مصيرهم الخاص، يجوز حبهم، وفي الحالات المأزقية تجوز مساعدتهم، لكن الإشفاق المستمر يؤذيهم ويؤذي الذات… يجب المساعدة بالخبر وليس بالزبدة، أي بالمساعدة في الحالات القصوى وتكون قصيرة.
كذلك كرر أنه لا يجب مساعدة أيًّا كان، فالطفل الصغير يجب مساعدته طوال الوقت، أما الأبله البالغ من العمر عشرين عاماً فيجب مساعدته دورياً، وإن عاملناه كأنه طفل رضيع فسنسبب مشاكل له ولأنفسنا.
ثم يعرج على الزوجة (الغارقة في وسائل التواصل الاجتماعي، والاستعراض بالتصوير) وأنها لا ترى زوجها إلا مزوداً يذهب بها إلى المطاعم لتصوّر، فليمنعها من التصوير، ليتأكد أن الذهاب معه له، وليس للتباهي أمام الناس، فالرجال أصبحوا في هذه الحالة يعملون عمل السائق، والمنفق، والحارس الشخصي، وأخيرا الخادم الذي يلبي حاجاتها دون نقاش، وربما العبد لأنه يلبس ما لا يرد ويأكل ما يجلب له… أليس يجلس في النهاية مثل الأحمق يأكل طعاماً لا يحبه، مع امرأة تريد أن تعجب غيره بماله… وربما كان رجلاً. يا للألم… يا للحماقة… أريد أن اصفع كل رجل بيدي على وجهه أمام الناس وأصرخ فيها أين رجولتك وامرأة تعاملك بهذا التعامل، التي لا تسطيع أن تعامل الكلبة، كلبها في عالم الحيوان.
يختم خطبته بتوكيدات مثل توكيدات علم الطاقة الهندوسي، يحث فيها على عدم العطاء… وفي النهاية يريد أن يشكر “آين راند” في نهاية خطبته، فهذه الفيلسوفة هي مصدره الأعظم في إلهامه لهذه الخطبة، وخصوصاً كتابها “فضيلة الأنانية”، ولكنه يتراجع فجأة ويحمد الله ويثني عليه.
تفكر الشيطان أن دوره في هذه الحياة قد انتهى، وأن القيامة توشك أن تحل، ويخاف أن يكون ليس له مكان مناسب في جهنم إذا انتظر كثيراً، فعليه أن يبادر بالعودة إليها، ولكن فات عليه الاوان، فقد وجد نفسه أن ذلك المخلص ربطه تحت منبر الجمعة ليمتطيه كل أسبوع من باب التسلية.

عادل النعمي أديب وناقد سعودي