ويظلُّ الشاعر يقف في جانب الطور الغربي من الحياة .. لا مكانَ يُؤويه إلا بيوتُ الشِّعر، ولا روحَ تحتويه إلا روحُ القصيدة .. هذا وإنه لا يستوي إلّا على عروشِ الماءِ الّتي لا تنفدُ كلماتُها بإذن ربِّها ..
مليًّا وقفتُ في ماهيّةِ الشّاعر وحزنٌ لفّني وأنا أتمحّصُ في هذا الكون؛ كونِ الشاّعر الغرائبيِّ العجائبيِّ بحدِّ ذاتِه..
إنّ تسارعَ الزّمنِ والأحداثِ ومجموعَ التّحولاتِ الحياتيّة المختلفةِ تجعلُ الشّاعرَ يقفُ منذهلًا منشدهًا وهو يرصدُ الواقعَ المُريعَ بذاتِ السّرعةِ في بصيرتِه ومخيّلتِه، حائرًا بأسئلتِه الكونيّةِ والوجوديّة، مستنكرًا على نفسِه وعلى هُويّتِه الإنسانيّة هذا التناقضَ المرعبَ الّذي فُرضَتْه عليه حتميّتُه، بين ما تدعو له فطرتُه الخيّرةُ المُحِبّةُ المُسالمةُ في طبعِها ، وبين ما يعيشُه من واقعٍ مقيتٍ، مأزومٍ بإبر التخديرِ وبأزيز الفكرةِ المملوحةِ المتزاحمةِ، موبوءٍ بذاتِه، الأمرُ الذي يجعلُه دائمًا يبحثُ عن أجوبةٍ لأسئلتِه الرّماديّه، والتي خلقتْ منه رغمًا عنه_ شخصيةً غائمةً ،غائبةً ،حائرةً ،شاردةً ،منفيّةً في الخيالِ؛ أملًا منها أن تجدَ حياةً تعوّضُه فيها عن واقعِه الأليمِ المقهور ، بَيدَ أنّ الخيالَ والغموضَ ضياعٌ ونفيٌ آخران يتوهُ فيهما الشاعرُ نفسُه ..
وكم تؤلمُنا حقيقةُ الأشياء .! ..
ذلك أن آلافَ الأفكارِ الواعيةِ التي يريدُ كتابتَها وصياغتَها تنْفلتُ من رأسِه الصغيرةِ، انفلاتَ بحرٍ من شواطئِه في يومٍ قائظٍ مقدَّدٍ لا ظِلَّ فيه، ولا مروجَ ترتديه.. وما إبداعُه المُتسرِّبُ هذا إلا محضُ فكرةٍ مجنونةٍ حمقاءَ بلهاءَ ؛ تمَّ القبضُ عليها وتطويعُها ليستمرَّ ألمًا ويستمر موتًا في الحياة..
من هنا أوكد على أننا بحاجةٍ ملحاحةٍ إلى إبداعٍ تكمنُ فيه كلُّ الدّهشةٌ، وتتفتّق من تحتِه أكمامُ الغمامِ وأساريرُ النّور .. كما لو أنَّ سلكًا كهربائياًّ يصيبُنا منه بمسٍّ فنرتعشُ معه على حينِ غِرّة، ، دهشةٌ مضادةّ معاكسةٌ في الاتّجاه لما بعد الهبوطِ القسريِّ العام الذي تحدثُه المعاناةُ والظروفُ في أزمتنا النفسيّة، والتي تحُفُّ بنا من كلِّ حدبٍ وصوبٍ في أوجِ مسارِنا الحياتيِّ البائسِ اليائسِ ، دهشةٌ متساويةٌ متوازيةٌ، متكافئةٌ ومتناظرةٌ في مخيالِها مع تلكُمُ الحقيقيّة التي تشخَُصُ معها أبصارُنا أمامَ هاتِه الحياةِ التي ضاقَتْ واشتدّتْ، وماقتْ واحتدّتْ .. دهشةٌ تربكُنا،تنقر في رؤوسِنا، تنفضُ أركاننا من صعقتِها الأولى بإلهامٍ إلهيٍّ وباقتدارٍ حسنٍ عبقريٍّ ..!!