يوسف طراد لموقع النهار
كقطرات حبر، تنسكب من شهد الفكر وتسيل تحت تأثير أسياط شمس الرقابة، متدفّقة إلى هاوية العتمة والمجهول، هكذا مصير نتاج الكتّاب الروس، الموصوف ضمن كتاب “الكتّاب الروس تحت المطرقة البلشفية” للكاتب جودت هوشيار، الصادر حديثًا عن دار سائر المشرق
بدقّة هذا البحث وبتوغّل كاتب يعي مسؤوليته، أعلن جودت هوشيار نبأ وفاة الأدب الروسي الذي تمّ منذ حوالي عقدين من الزمن، مذ توقّف الكتّاب الروس رسم المعاناة شعرًا ورواية. فالمجتمع الروسي الحالي قد نام على أمجاد مؤلّفات عباقرته الماضية، قبل وبعد الثورة البلشيفية. واكتفى من معركة هؤلاء العباقرة بصيتٍ أدبيٍّ كالوسام الذي يكاد الصدأ يأكله؛ وربما سيفنيه الصدأ بالكامل عندما يرثه أبناء هذا المجتمع عن آبائهم
“أولغا ايفينسكايا- ملهمة باسترناك وبطلة روايته دكتور زيفاغو” هو المقال الأوّل الذي تصدّر واحدًا وعشرين مقالًا، ضمن مئة وثلاث وأربعين صفحة هي عدد صفحات الكتاب. ويكاد يكون المقال الثاني “آلام بوريس باسترناك” مدموجًا مع المقال الأوّل؛ فجميع مقاطع المقالين تصف عذاب باسترناك في حياته وموته، من هذه المقاطع: “تعذيب باسترناك باعتقال حبيبته”، “الدولة لا تعترف بوصية باسترناك”، طريق باسترناك الشائك إلى جائزة نوبل”، محاكمة أدبية” وغيرها من المقاطع
سؤال طالما حاصر القارئ المهتم بالأدب الروسي: كيف حصل بوريس ليونيدوفيتش باسترناك على جائزة نوبل للآداب عام 1958، في حين كان أدبه في الحرز، ومُنع تصديره إلى الغرب، لأنّه كان وثائق تدين قمع قادة البلاشفة للفكر المعارض لحكمهم؟
باسترناك أراد أن تكون روايته “دكتور ريفاغو” شاهدًا على مرحلة مهمة، وتقريرًا واضحًا عن الأوضاع في الإتحاد السوفييتي بعد ولادة الثورة البلشفية وقبل الستالينية وخلالها وبعدها. لكنّها لم تكن المادّة الوحيدة على طاولة الحكّام المانحين جائزة نوبل في المملكة السويدية، ويقول المؤلّف في الصفحة 17 من الكتاب: “يخطئ من يظنّ أن منح جائزة نوبل في الأدب لعام 1958 إلى بوريس باسترناك، كان فقط بفضل رواية (دكتور زيفاكو) التي أثارت فور نشرها في إيطاليا عام 1957 ومن ثم ترجمتها في الأشهر اللاحقة إلى أكثر من عشرين لغة، ضجّة أدبية وسياسية في روسيا والعالم، لم يسبق لها مثيل”. هذه الرواية قد نُشرت في إيطاليا عام 1957 للميلاد ولأوّل مرّة خارج #الاتحاد السوفييتي عن طريق التهريب، حين قدّم باسترناك نسخة منها للصحافي الإيطالي سيرجيو أنجيلو. ومن المعلوم أنّ اسم باسترناك لم يغب عن لائحة المرشحين للجائزة خلال الأعوام 1947، 1948، 1949، وذلك قبل اكتمال الفصول الأخيرة من الرواية عام 1955، حسب ما ورد في الكتاب
بداية التحوّل الثقافي في الأوساط السوفييتية، كانت مع بداية التفاعل الخجول بين الثقافتين السوفييتية والغربية، بعد تقرير نيكيتا خروتشوف عام 1956، وقد زرع هذا التحوّل الأمل بنشر رواية “دكتور زيفاغو” خارج الاتحاد السوفييتي ولو كان هذا الأمل ضئيلًا. وكان لبسترناك شكوكٌ كثيرة حول ردود فعل المجلّات السوفيتية التي ماطلت كثيرًا في نشر الرواية، على نحو مثير للريبة حسب ما كتب هوشيار في الصفحة 18: “وألمح إلى المخاطر التي سيواجهها إذا رفضت المجلّات السوفييتية نشر روايته. وقال لأنجليو مودعًا: “سأدعوك إلى عملية إعدامي”
في العام 1958 تم ترشيح باسترناك للجائزة وكان الكاتب الفرنسي البير كامو، قد مهّد لهذا الترشيح عند نيله الجائزة عام 1957 حسب ما ورد في الصفحة 19: “وقد وصف ألبير كامو- في الخطاب الذي ألقاه في حفل استلام جائزة نوبل في الأدب لعام 1957- باسترناك بالشاعر العظيم، وأنه مثال الشجاعة والشرف، وأن الفنّ في بعض البلدان مسألة خطرة وعمل بطولي
“.
مقطع “تظاهرة إجبارية!” (صفحة 20) ألقى الضوء على ندم الإتحاد السوفييتي على الانفتاح على الثقافة الغربية بعد خطاب خروتشوف الشهير. فقد ذكر الكاتب خلاصة مقال نُشر في الصحيفة الأدبية “ليتراتورنايا غازيتا” تضمّن استنكار الطلاب للعمل “المشين” الذي قام به باسترناك بتهريبه الرواية ونيله جائزة نوبل في الأدب، مدفوعين من قبل النظام وقد اختبأ معظمهم في دورات المياه ولم يشاركوا بالمظاهرة. بعد المحاكمة الأدبية التي جرت في 27 أكتوبر عام 1958 وحضرها الكتّاب السوفييت المعروفون، للنظر بقضية باسترناك وقد قاموا بدورٍ معلّب ومفروض؛ وقد فصّل المؤلّف خبايا هذا الدور في مقطع “محاكمة أدبية” الوارد في الصفحة 21 من هذا المقال، رفض باسترناك جائزة نوبل عبر برقية أرسلها إلى الأكاديمية السويدية قائلاً: “أراني مضطرًا إلى رفض الجائزة التي منحت لي بسبب المعنى الذي فهم من هذا المنح في المجتمع الذي أعيش فيه، أرجو ألّا تحملوا رفضي على محمل سيّئ.” (صفحة 23)
نُشرت رواية “دكتور زيفاغو” بعد ثلاثين عامًا من الحظر في أهم المجلّآت الأدبية الروسية، وسُلمت ميدالية الجائزة “إلى الإبن الأكبر لباسترناك، يغفيني، في احتفالٍ مهيب جرى في ستوكهولم عام 1989” بعد أن اعتبرت لجنة نوبل رفض باسترناك للجائزة قسريًا
بداية قصة الحبّ، بين يوري زيفاغو ولارا بطلي قصّة “دكتور زيفاغو”، حصلت في الجنوب الغربي بالقرب من أوكرانيا، ويقال أن الرواية مستوحاة من حياة الكاتب، حيث ألهمته علاقته بحبيبته أولغا بكتابتها، وقد فصّل هوشيار هذا الأمر في المقال الأول من الكتاب. وبما أنّ معظم روائع الأدب الروسي قد خرج من رحم الحرب، وتكلّم عن ألم الشعب قبل وبعد الثورة البلشيفية، فهل سيخرج من رحم الحرب الدائرة الآن في الربوع الأوكرانية حبّ أسطوري آخر يلهم كاتبًا جديدًا على غرار باسترناك ويعيد للأدب الروسي تألّقه؟ المستقبل كفيل بالجواب
روسيا بصحاريها الجليدية الحارّة، ووجها الثلجي الأبيض، وهزيز رياحها المحملّة قصص شعوبها على مرّ العصور، وحكايا العذاب والثورة، وأنين البروليتاريا والمسحوقين القدامى، وصرخات ملايين الثّوار، وعذاب المعتقلين، في معتقلات الإمبراطورية القيصرية وسجون الإتحاد السوفييتي، من أدباء ومفكرين ومعارضين؛ دوّن معظم قصصها هوشيار عندما أسمع القارئ صوت العاصمة سان بطرسبورغ. فحين يتكلم أدباء وشعراء هذه المدينة، لا يملك العالم إلّا أن ينصت، وحين ينطلق شجو هذه العاصمة الأسطورية، عبر حنجرة شاعرة كآنا أخماتوفا، يصبح لصمت المتلقي أو القارئ نكهة خاصة جمالية وجدانية، ويبلغ الشعر مرحلة الشهادة الإنسانية المنسحبة على عصر بكامله. فجميع الأدباء والشعراء المذكورين في الكتاب هم شرقيّو الشعور وغربيّو التفكير على غرار الكاتب الأزري المعاصر أنا راضيف الذي خصص له الكاتب مقالًا من ثلاث صفحات اعتبارًا من الصفحة 45. فعودة فكر “الساخر الحزين” الكاتب سيرغي دوفلاتوف المظفّرة الى روسيا عبر كتاباته التي منعها النظام السوفييتي والصادرة في أميركا وأوروبا، والتي لم تظهر في وطنه الأم إلًا بعد وفاته، حين أُلغيت الرقابة الصارمة على المطبوعات في أواخر عهد البريسترويكا، وقد ذكر المؤلّف هذا الأمر بالتفصيل في الصفحة 38؛ ومعارضة الكاتبة سفيتلانا ألكسيفيتش الفائزة بجائزة نوبل في الآداب لعام 2015، لنظامَي لوكاشينكو وبوتين اللذين “يحاولان إحياء النظام السوفييتي وتجميله في أذهان الجيل الجديد” حسب ما ورد في الصفحة 40، ومحاولة النظام السوفييتي نسب رواية “الدون الهادئ” لشولوخوف لعدم ظهور أي “كاتب عبقري بروليتاري واحد خلال عقدٍ كامل من النظام البلشفي” (صفحة 51)، وانتحال نابوكوف لرواية “لوليتا” من كاتب ألماني مغمور، وهذا الأمر مذكور في مقال من سبع صفحات اعتبارًا من الصفحة 71، ومقالات أخرى عن الكتّاب اللامعين، توضح الشعور الشرقي والتفكير الغربي لهؤلاء الكتّاب. ربما لأنهم من مجتمع محافظ يتوق إلى التخلّص من استبداد حكامه، للوصول إلى حرية غير موجودة في هذا المجتمع، حالمين بحرية الفكر والرأي السائدة الغرب
تبدأ بقراءة مقال “معطف غوغول وتمّرد الإنسان المقهور” (صفحة 104)، فتقفز من الصفحات صرخات المسحوقين، وتفوح سخرية المجتمع من الكلمات، وبين السطور تتراكم الهموم؛ ويصبح الحلم بمعطف جديد يلتمع في ظلمة القدر، فيجاهد أكاكي أكاكفيتش لتحقيق حلمه ويحصل على ما حلم به، ويُسرق الحلم. قصّة تشبه لوعة الفلّاحين على غلالهم فوق البيادر المحروقة، إنه الفقر
هل سنجد هوشيار آخر ليكتب عن قياصرة وبلاشفة لبنان؟ فإذا كان الاعتقال أو النفي أو الهجرة من نصيب الأدباء الروس، فالتفجير والقتل كان من نصيب الكتّاب والصحافيين اللبنانيين المعارضين للاحتلال السوري الذي أُطلق عليه لقب الوصاية تخفيفًا لوطأته، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الصحافي سليم اللوزي الذي كتب رواية “طريق الخطيئة” وصاحب القسم الشهير الصحافي جبران التويني، والصحافي سمير قصير، وأخيرًا وليس آخرًا الكاتب والناشر والناشط السياسي لقمان سليم؛ وهل سيظهر شبح أكاكي أكاكفيتش في الطرقات السياسية الملتوية في لبنان، وينتزع معاطف الزعماء؟