– النص
– طريق الورد
دكتورة درية فرحات، أستاذة في الجامعة اللبنانية.
اطمأنت على كل ركن في مسكنها الوردي، أغلقت بابه على كل الأحلام المخبأة في ثناياه، هنا لمست أنامله نعومة السّتائر التي اختاراها معًا، هناك كان اتّفاقهما على لون الجدار، وفي كلّ زاوية من بيت الأحلام وضعا مكوّناته، أيام تفصلهما عن الاجتماع معًا يكملان طريقًا ورديًّا نظّما كل تفصيل فيه.
في اليوم الموعود تصلها رسالة وداعية، معتذرًا بأنّه لبّى نداء الشّهادة على طريق القدس.
________________________________________
مقدمة
للقصة القصيرة جدًا صفات تميزها عن الأنواع الأخرى، وأول صفة هي صفة الحكائيّة، فالقصّة كما يقول الناقد وليد أبو بكر “لا بدّ وأن تروي حكاية ما، هي تاريخ لشخصية واحدة على الأقلّ، أو جزءٌ من سيرتها في لحظة معينة، هي لحظة التحوّل ذاتها. ولأنها قصيرة جدًا فإنّها تبدأ من داخل الحدث، ويعمد كاتبها إلى رسم صور شخصيّاته وهي تفعل، لا أن يخبرنا عن أفعالها”[1].
1- العنوان
يفضي عنوان القصّة “طريق الورد” إلى الطّريق البديهي لحياة شريكين على أعتاب الزّواج، فأيام معدودة تفصلهما عن موعد الزّواج، فطريق الورد والهناء هو طريقهما، إلا أنّ الطّريق الذي سار به الشّريك ووصل به إلى “الشّهادة” فالورد مقصود به الشّهادة، وهو ما أدّى إلى عنصر المباغتة. إنّ صدمة القارئ من أهم محفزّات الانفعال والإقبال على قراءة القصّة القصيرة جدًا؛ إذ ينبغي على القاص أن يحرص على توافر هذه الصّدمة في قصصه القصيرة جدًا، وعلى هذا الأساس تحدث الصّدمة أو الدّهشة على الأقل، بدءًا من العنوان الذي ينبغي أن يكون إشكاليًا وصادمًا، وغالبًا ما يكون هذا العنوان خلاصة القصّة، ومحرّكها الرئيس من البداية إلى النّهاية[2].
2- صدمة القارئ
حرصت جلّ النّصوص القصصيّة القصيرة جدًا على أن تحتفي مع ما فيها من تنوعّ بتوليد الحساسية الانفعاليّة والدّهشة وإلى حد ما الصّدمة الجماليّة في نفسية القارئ وعقليته عندما يقرأها؛ لأنّه لا يمكن لأي قاص في مجال القصّة القصيرة جدًا أن يتجاوز هذه الحساسية أو الصّدمة؛ وذلك انطلاقًا من كونها أهم مسوّغات مشروعية هذه القصّة لدى المتلقين لها[3].
وفي هذا النّوع من القصّ يفضل أن يكون حدثًا واحدًا، وشخصية مركزيّة واحدة، لأنّها “تحتاج تكتيكًا خاصًا في الشكل والبناء، ومهارة في سبك اللّغة، واختزال الحدث الـمحكيّ، والاختصار في حجم الكلـمات[4]” فالحدث يوحى ولا يصرح، ويكون مكثفًا وعميقًا، ويترك للقارئ أن يستكمل الفجوات، ولا بد للحدث أن يتّصف بالسمات الدرامية التي تهبه التوتر والحركة والفعل.
القصّة تتضمّن شخصيتين تجهزان مسكنًا للانتقال إليه بعد الزواج، وتؤدّي المرأة فيها الشّخصيّة الأساسية، فبدت المرأة أنّها تشارك المسؤوليات، وأنّ الرّجل يعي وضعية المرأة الفعلية وأهمية مشاركتها[5]، فهما يتشاركان مسؤولية اختيار الأثاث المنزلي “هنا لمست أنامله نعومة السّتائر التي اختاراها معًا، هناك كان اتّفاقهما على لون الجدار، وفي كلّ زاوية من بيت الأحلام وضعا مكوّناته”. أحداث هذه القصّة تسير في إيقاع سريع، بدأت بالاطمئنان على كلّ ركن في هذا المسكن الورديّ، وهي تستند إلى نهاية حزينة، تجعل القارئ يتلقّى الفكرة بقوة، فالنّهاية في القصّة مؤلمة تحاكي الواقع المرير، واقع الحبّ في زمن الحرب، في بلدٍ يعاني من وطأة العدوان، فالقاصة لم تخبرنا عن الأوقات التي عاشتها الشخصيتان في أثناء تجهيز منزلهما للانتقال والعيش فيه، إنّما أوحت بها، وترتكز هذه الأحداث على الاختزال الذي يُنتج التّوتر، فبعد الحديث عن تفاصيل تجهيز المسكن بوتيرة سريعة من نعومة السّتائر، ولون الجدار، فهناك أيامًا تفصلهما عن الاجتماع معًا ليكملا الطريق الورديًّ. نظّما كلّ تفصيله، حتّى الوصول إلى اليوم الموعود الذي جاء مخالفًا للتّوقع، فالشّريك قضى شهيدًا على طريق القدس، فكان الطّريق “طريق الورد” والشّهادة، وهو العنوان الذي توسّمت به هذه القصّة القصيرة. إنّ تحدي الموت وقهره يحمل في النّهاية معنى الانتصار، على القهر والرضوخ[6]. وهنا الانتصار تجلّى بأعلى مراتبه هو الانتصار على الظّلم ومساندة المظلوم.
2- اللّغة السّرديّة
ليس بوسع القصّة القصيرة جدًا إلا أن تتعامل مع اللّغة من منظور التّكثيف الحاد، فتغدو لغتها محدودة جدًا من حيث عدد الكلمات. لكنّها في الوقت نفسه لغة تحيل إلى عالم شاسع من خلال الإيحاءات والدلالات! فـ “طريق الورد” هو عالم من الدّلالات يتماهى في بداية القصّة مع حالة الشّريكين، من حيث الزّمان، وهو أيام قبل الزّواج، ومع حالة المكان، وهو المسكن الذي يُجهّز قبل الزّواج.
إنّ اللّغة الإبداعيّة هنا، لا تحتمل التّفصيلات والشّروح والحوارات كما هو الحال في الرّواية أو القصّة القصيرة أو المقالة أو ما إلى ذلك؛ فاللّغة في القصّة القصيرة جدًا لغة إيجاز، وترميز، وإيحاء، وحذف إبداعيّ، وإيقاعات متعدّدة في عبارات محدودة. فلا نجد الحوار لدى الشّخصيات، إنّما الأعمال هي التي أعطت دلالات القصّة التي انتهت إلى الدّلالة العظيمة للورد في خاتمة القصّة، فالطّريق هو طريق الشهادة.
4- المجاز والتّكثيف
التكثيف في اللّغة الإبداعيّة هي لغة فوق اللّغة، فإذا كانت اللّغة تعني التّعبير عن المعاني المباشرة التي لا تحتمل التّأويل عادةً، فإنّ اللّغة الإبداعيّة لغة مجازية من الدّرجة الأولى، أي أنّها تتكئ على الصّورة الفنيّة والرّمز والغموض الشّفافين، فتغدو بذلك لغة مكثفة، وهذا التّكثيف هو ما جعل من هذه القصّة القصيرة جدًا تستحضر عند تحليلها أو قراءتها من فضاء المحذوف أو الغائب أو المحتمل أكثر مما هو حاضر في لغتها ودلالاتها المباشرة الكائنة في لغتها الحاضرة! التّكثيف اللّغوي، إذًا، عنصر حيويّ في بناء حجم القصّة القصيرة جدًا من حيث الشّكل العام، فاختصرت هذه الأسطر القليلة، مسار حياة شابين على أعتاب الزّواج، وحالة الاطمئنان المصاحبة لتلك الحقبة، “اطمأنت على كل ركن في مسكنها الورديّ، أغلقت بابه على كل الأحلام المخبأة في ثناياه” ثم حالة القهر التي حلّت بالعروس لفقدانها الشريك، وهي التي لم يُصرح بها، بل يملأها القارئ في ذهنه، وحالة التّضحية التي قدمها الشّريك في سبيل الوطن.
5- الذّات وإثارة الأسئلة
لا شكّ أنّ الذّات المبدعة للقصة القصيرة جدًا تحرص دومًا وبوضوح على أن تعلي من ذاتيتها الواعية تجاه العالم من حولها، فتغدو الكتابة السردية من خلال إشكالية الذّات.
القصّة القصيرة جدًا مشبعة بالذّات؛ ذات الأنا في بداية الحكاية مع الشّريكين مع تجهيز البيت سويًا وفق الرّغبة والاعجاب بما يناسب أسلوب الحياة، ثم الانتقال إلى ذات النّحن الجماعية التي تجلّت في الشّريك، إذ آثر الاستشهاد على طريق القدس، مقدّما ذات النّحن على الأنا، “في اليوم الموعود تصلها رسالة وداعية، معتذرًا بأنّه لبّى نداء الشّهادة” على طريق القدس.
الخاتمة
القصّة القصيرة جدًا ببساطة، هي قصة تصل إلى هدفها من دون إهدار للكلـمات، هذه القصّة القصيرة المختصرة تصل إلى نهاية مدهشة بالغالب، أو بكثير من الغموض، إنّها بنية سرديّة بالضّرورة أولا غير قابلة للتّأطير الجماليّ السّرديّ يتشكّل وجودها من خلال نصوصها[7]. وهذا ما اعتمدته القاصّة مظهرة براعة أدواتها الإبداعيّة في السّرد وقد تجسّد وعي القاصّة، وظهرت أدواتها في القدرة على التّجدد والابتكار، وهنا أبدعت الكاتبة في استخدام المفارقة وتفجير المتوقع والتّكثيف والتّرميز والنّهاية المباغتة، وتصوير الواقع وما يحمله من عظيم التّضحيات في سبيل التّحرّر والارتقاء.
[1] وليد أبو بكر، من التبعية نحو الاستقلال، مجلة الأيام، ٢٠١٠، تم الاسترجاع (1 – 11- 2023) من موقع https://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=7f0f2c0y133231296Y7f0f2c0#:~:text=%D9
[2] د. حسين المناصرة، جماليات المغامرة: قراءة في إشكاليات القصّة القصيرة جدًا، 2006. تم الاسترجاع في (1-11-2023) من موقع
https://www.al-jazirah.com/culture/06112006/almlf56.htm
[3] د. حسين المناصرة، مرجع سابق.
[4] سبتي، ابراهيم، محنة القصة القصيرة جدًا، من موقع الحوار المتمدن، ٢٠٠٦. تم الاسترجاع في (2-11-2024). من موقع https://m.ahewar.org/s.asp?aid=65772&r=0
[5] مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الانسان المقهور، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي ط٩ ،2005، ص(207).
[6] حجازي، مصطفى. المرجع نفسه. ص(55)
[7] د. حسين المناصرة، مرجع سابق.