بقلم د. نورالدين محمود سعيد
ليست أكثر من (وجهة نظر)
قبل البوكر أو غيرها من جوائز، على الروائيين الليبيين والليبيات (من الشباب) أو من (غيرهم) من أراد أن يجرب الكتابة، التي هي بكل تأكيد، ليست حكراً على أحد، فقط أنها تشترط أن ننتبه، وأن لا نغفل على شروط صنعتها؛ لعل أهم هذه الشروط في رأيينا هي
-1-
بناء الرواية
من السخف أن نترك الأحداث تتوالى بلا ضبط، ومن الصعب أيضاً أن نخلط الكلام في جمل غير متماسكة، لا تفضي إلى أي معنى
-2-
لا تقطع مشاهدك كيفما اتفق؛ فقط لكي تهرب لمشهد آخر لم تجد له حلول في المشهد الذي سبق
-3-
لا تلعب بالكلمات، أو تتحدث بشكل عشوائي، ظناً منك مثلاً، أن اصطلاح مثل “الجناس التصحيفي” يمكنه أن يعينك في ذلك، بأن تأتي بكلمة مقابلة لكلمة أخرى تشبهها فقط في الحروف، وتختلف عليها في المعنى، بغرض أن تبين أنك تعرف معنى هذا النوع من الجناس، وأنه يجب أن يدخل في الرواية بهذه الكيفية
-4-
قبل هذا وذاك، بناء الشخصية مهم جداً، ثم بناء فعلها الذي هو، أكثر أهمية
-5-
ـ خلق العقبات التي تتغير على ضوئها الأحداث، ويتجدد من خلالها الصراع ليصل إلى ذروته. سألت أحد المهتمين بالكتابة، ذات مرة
ماذا يعني لك الصراع؟ وما هو، وما هي أنواعه، قال: ليس شرط أن يكون ثمة صراع، قلت له: هل ثمة في الكرة الأرضية دراما بلا صراع أو قصة بلا صراع؟ قال نعم، أفحمني منذ أول كلمة أغلق رأسه عليها، لم أطل معه، لم أسأله حتى عن مصادره. أنا هنا ((لا أناكف أي كان)) أنا فقط أضرب أمثلة لكي نتدرب من خلالها، وليس بيني وبين أحد أية عداوة، أو أنني أنوي إزعاج أحد بعينه، حتى في هذا المثال الذي ساقه أمامي القدر لأقرأه، خصوصاً وأن الكاتب، سيكون كاذب بالضرورة، لو قال انه يكتب لنفسه، لقد أشرنا لهذا في موضوعات سابقة، لأنه في الحقيقة كلما خط جملة أو وضع نصاً، سيذهب النص لقارئه. النص لن يكون لصاحبه حين يخرج، النص “سيصبح قارئه” وليس مؤلفه، لن أعقد كلامي؛ بل أنني (هنا بالذات) أتقصد أن أُسهِِّل، أقصد أنني لا حاجة لي بأن أتحذلق باستخدام اصطلاحات من أجل اصطلاحات
-6-
منابع صناعة الرواية
بعض الكتب القديمة التي تهتم بفن كتابة القصة القصيرة مثلاً، أو حتى الرواية (كأدب) لم تعد نافعة في زماننا أقولها صراحة هنا، بسبب استخداماتها السهلة، حتى هذه الساعة (نظراً لاستساغة نصها وسهولة قراءته) الكل يتحدث عن “لحظة التنوير” مثلاً، و”وحدة البناء” كذلك، و”النسيج” الخ. ويتناسى الجوانب المهمة جداً والقراءات الأكثر أهمية، من مثل (النص والسياق) و (علم النص) ومعنى التناص، الخ، ثم ومن ناحية أخرى، فإن اصطلاحات من نوع “لحظة التنوير” في رأيينا، أضحت، نوع من اللَّوك والتمتمة القديمة، الرواية اليوم أو حتى القصة القصيرة، لم تعد على حالها أبداً، منذ اختراع ما يسمى بالسيناريو، أنا لا أحكي هنا عن “جورج ميليه، منقذ السينما من الضياع في الرفوف طبعاً، أو أحكي مثلاً عن ما استجد قبله، في المسرح على وجه الدقة، أنا أحكي عن (علم السيناريو السينمائي) قد أتهم هنا أنني أتحدث من وجهة نظر مغايرة بناءً على تخصصي، هذا الظن من القارئ، صحيح، ولكن رؤيتي الخاصة التي أريد طرحها كذلك، وهي من حقي كقارئ، هي أن الرواية اليوم وبلا (معرفة معنى السيناريو) السينمائي، على وجه الخصوص، لن تكون رواية، لأن إنسان اليوم كقارئ، اختلف، باختصار، اختلف من ناحية التعاطي مع الأدب؛ لا تذهبوا بالظن كذلك، أنني أمهد بالقول، أن على الرواية أن تكون أقصر من الرواية الكلاسيكية التي قد تصل إلى 300، أو 500 صفحة، أبداً لا، وإن إنسان اليوم لا طاقة له على قراءة كل هذه الصفحات، بالعكس، بالإمكان أن يقرأ إنسان اليوم حتى 1000 صفحة إن استطاع إلى ذلك سبيلا، فقط أن يكون الشرط الأساسي للنص الذي يقرأه، أن صاحبه كتبه بـ (وجوب تمكن من فهم آليات كتابة السيناريو) في رأيينا، و”الذهاب في الرواية بشروطها كذلك”. لن أقول جملة آبيل جانس، لقد جاء زمن الصورة، بل سأقول، لقد جاء زمن أدب الصورة؛ فالأدب بلا “فيلم” في أحشاءه، في زماننا لن يكون أدباً، على الأديب في عصرنا أن يتعرف على آليات الكتابة السردية وفق ميكانيزمات فيلمية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى عليه أن يكون سيد موضوعه المطروح، من ناحية المكان، ومن ناحية الزمان كذلك، كأن تسأل، على سبيل المثال، في أيامنا أو حتى قبل أيامنا، أحد ما تجده في مكان يعرفه فيما أنت تسأل عن هذا المكان، كأن تقول مثلاً، وأنت في فلورنسا، أين أجد اللغة الإيطالية؟ سيجيبك الذي سألته فوراً، إذا ما كان ابن بلد: فلورنسا هي اللغة الإيطالية
لماذا تراني أسوق هذا الكلام؟ لأنني ببساطة (أظن) أنني أحاكي ما أعمل، كوني مدرس سيناريو، ومدرس نقد أيضاً، على أقل تقدير، وكون أن القص بلا منطق مفسد للذوق، ومهلك لصاحبه قبل قارئه
سأتحدث هنا على ما عثرت عليه في هذا الفصل، من الرواية الموسومة (كونشيرتو قورينا إدواردو)
عنوان مبعثر، جاء وكأنه ملموم من بقايا زلزال أو انفجار، ثم أنه، أي العنوان، يصرح بأنه يعلن عن ثلاثة أشياء غريبة عن المكان الذي يحكي عنه، أنا لا أدري إلى حدود هذه اللحظة، لماذا كتابنا الجدد صارو مهووسين بالأسماء اللاتينة، سواء في تسمية شوارع المدن االليبية الكئيبة، أو على لافتات المحال التجارية والأسواق، أو على أغلفة الروايات وغيرها
كونشيرتو قورينا إدواردو، يشبه بالضبط أحد الكلمات التي تصدر عن أحد البسطاء المقبولين بخفة روحهم، كأن يقول: (بيشيكليتا تيرموستاتا بالدادو) مقلداً مثلاً مذيع لنشرة أخبار طليانية، كلمات خاوية، من الهدف، لكنها مشحونة بالإضحاك. طيب، قد ينهض أحدهم مدعياً الثقافة، ويقول: ((هل يعقل أن لا تعرف كلمة كونشيرتو؟ ولا كلمة قورينا، ولا إدواردو؟))
لا بأس، كلمة واحدة فقط جاءت محلية من التسميات الكلاسيكية لمدينة ليبية، تُطمئن على كل حال، ومع ذلك تدخل الريبة: قورينا مثلاً، ثم كلمتين مقابلها، كونشيرتو، وإدواردو؛ ويبقى القارئ مشتتاً بين الأصل والتقليد، كونشيرتو حفل موسيقي، وقورينا إسم قديم لمدينة ليبية في الشرق، منذ عهد الرومان، وإدواردو إسم علم إيطالي. لن أتحدث حول هذا الآن، ولكن سأذهب مباشرة لهذا الفصل، المقتطف من الرواية، والذي ستجدونه في مرفق المنشور
“فنتزة” وحذلقة كاملة منذ العنوان، وحتى الأربعة أسطر الأولى، مذاق طيب للأسلوب، ولكن الأحداث لا نسق فيها ولا سياق متماسك، تقول الرواية على لسان الراوية البطلة
((أول مرة عرفت فيها آمال ابنة أمزا(١) مسعود، تعود إلى زمن قديم لا أتذكر شيئًا قبله، أذكر أنها في الفويهات، وأنها كانت في الصباح وكانت رائحة البيت طعامًا، وأختي أمينة تساعد أمي في المطبخ والعائلة ستجتمع لدينا على الغداء))
إلى هنا كلمات مفهومة بما فيها “أمزا” لتي همشت لها بالإشارة، هي تسرد للمكان والزمان أيضاً، وتدخل شخصيتين، أختها وأمها وباقي العائلة، ثم وبينما هي هكذا، يتغير الحدث في قفزة لا مبرر لها البتة، لتقول مباشرة بعد السطرين السابقين
((كنت ألعب في البراح الوسيع أمام الڤيلات مع شقيقتي))
من جهة هي داخل البيت بدلالة أن رائحة البيت طعاماً، ورغم بساطة الجملة الأخيرة، لكنها تشير إلى حدث فلا بأس، لكن من جهة تؤكد أنها هي وأمها وأختها أمينة في الداخل، ثم تقول كنت ألعب في البراح الوسيع أمام الفيلات هي وأختها أمينة، ليتها على الأقل لم تشرك أختها، أمينة بالتحديد، معها، لذهب الفعل في سياق مقبول، لا تدرك بالضبط هل كانت هي وأختها داخل البيت أو خارجه، المشكل أننا لسنا أمام مشهدين، بل مشهد واحد فقط
وفي حدود أخرى، فإن كلمة “أمزا” من المفترض أنها، طالما جاءت هكذا ستكون شيفرة بضرورة مغايرتها للغة، لكنها للأسف لم تنظوي على أي دال ولا أي مدلول ولم تفضِ إلى شيء عدا معناها الذي أشارت له الروائية في الهامش، على أنها تعني “عم” في اللغة العربية، أي العم مسعود. سنقبل الكلمة فقط إذا ما جاءت في نهاية السرد بحل لها، لكن أن نأتي بكلمة “أمزا” فقط لأنها كلمة دالة على معنى “عم” في لغة أهل كريت، لن تكون مقبولة لدى قارئ مهتم
تكرار كلمة “الفيلات” والخ من البعثرة، التي جاءت بلا مغزى، مهما تم تشفيرها، بأن العائلة ثرية، في الوقت الذي تشتاق فيه الطفلة على لسان الراوية إلى جيلاتو ورفاهية لعب أكثر، وقطار صغير، بإمكان والدها شراءه لها، خصوصاً وأنهم يقطنون حياً به فِلل أو (فيلات) كما تشير الرواية، وليس زرائب هذه المرة. الحقيقة أنه ورغم كل التشفير كانت المغازي واضحة، وفوق كل ذلك بلا معنى
أنا لست ضد أحد في أن يكتب ما يشاء، فقط إنني كقارئ (كثير المجاملة والتشجيع) فيما سبق لي من نصوص نقدية، بت مرعوباً جداً من هذه السرديات؛ لأنها من جهة تبعث على القلق والتساؤل، ومن جهة أخرى أهم، سيرتبك جراءها مصير الرواية الليبية أياً كانت، سواء في هذه الرواية أو في غيرها ممن هي على شاكلتها، وقد حصل ذلك في أغلب الروايات المترشحة لهذه الجائزة الموسومة بـ “البوكر” بالأخص إذا ما ذهبت باقي الأحداث إلى ذات المتاهة في هذه الرواية. أحداث جاءت للأسف متضاربة وغير متماسكة
المرحلة العمرية بينها وبين ابنة عمها، أو آمال بنت أمزا، الذي هو العم في لهجة الجريتلية كما تقول بن شتوان، تستدعي للتساؤل، كيف تقول أنها كانت معهم وهي صغيرة، وتؤكد أن الحدث تتذكره، لأنها قالت (لا أتذكر شيئاً قبله) ثم تنجرف لتؤكد أنها فرت مع أختها خوفاً من آمال، لأنها لم تتعرف عليها، ثم تقول بعد ذلك أن أختها أكدت لها أنها آمال بنت عمهم؟
ثم تقول بعد ذلك أيضاً، أنها صارت شابة مكتملة بل ناضجة تماماً، وفقاً للنص ووصفه للخِلقة التي عليها آمال، القارئ المتفحص سيمنحها على الأقل عمر 30 عاماً، لأنها تقول أن الزمن بين رؤيتها الأولى والثانية كانت طويلة جداً. مهما حصل، هما ليسا متباعدان في العمر، وفق عمر أختها التي تعرفت على آمال، فيما تقول أنها وأختها توأمان. الحقيقة أن المرء لا يفهم بالضبط هل شقيقها توأمها أم شقيقتها
ومن ناحية أخرى، لم توضح الراوية نفسها أنها تروي أحداثها وبها لوثة عقلية مثلاً، أو نوع أو طيف من التوحد!. هي قالت فقط، أن بها لعثمة في الكلام، أو تأخر في الكلام، ولم تستمر بن شتوان في بناء الأحداث كتمهيد نتعرف فيه اكثر على البطلة الراوية بأن بها ما بها مما أشرنا؛ ثم وفي الحدث الآخر، وإن يكن صحيح، وبإمكان الروائية أن تدخل فيه كلمة “قمصان ملتصقة” لشاب ذكر ذو شعر كثيف، هي تقصد فيصل طبعاً، لا بأس في ذلك، ولكن أن تضيف صفة “بنطال شارون ستون” فإن الوصف فيه الكثير من “التدني في المعنى” إلا إذا ما أرادت بن شتوان أن تفضي بحكايتها إلى أن الشاب كان مثلياً مثلاً، أو به شائبة خِلقية لازمته منذ الولادة، أو أنه يعاني من متلازمة ما، جنسية أو نفسية الخ، لأن “شارون ستون” نجمة سينمائية أمريكية، يعني (أنثى) وليس اسم “شارون” هنا ذَكر مثلاً، كما تتوقعه الراوية، كإسم علم مذكر يهودي
أقصد باختصار، أن الأسلوب ورغم بعض لذته السردية، والتشويقية، فقد الكثير من تماسك أحداثه ودواله ومدلولاته للأسف، وللأمانة أكثر أنا هنا كتبت وفق ما قرأت، لأنني أمام نص مكتمل وإن كان مقتطف من رواية كاملة، وبالإمكان طالما هو هكذا، أن يتم فحصه، لكنني لن أحكم الآن على بقية الرواية، إلا بعد أن أقرأ متونها كاملة، مع كل الاعتذار للروائية، التي أتمنى لها التوفيق، إضافة إلى أن ما جئت به هنا قابل هو الآخر للدحض أو التأييد، سيان