ماري القصيفي كاتبة تكتبنا وتكتب لنا
حفلة أدبية برعاية الحب وحضور الحزن.
أفكار بجمال البحار ورهبة الثلوج، تختال شهداً بصهيل حبر حالم من دون اكتراث لأوهام أو غلاف كتاب بعنوان “رسائل العبور” للأديبة ماري القصيفي.
لنعش أفكار الكاتبة لأن الأعمار هاربة. للذين يفتقدون الدهشة يجدونها في مقالات صغيرة بحجمها، كبيرة بمضمونها صادرة عن دار نشر (مختارات).
للقاءات المتوهّجة وعبور الملك توقّد حروفاً ناريّة، نتنشقها من انتشار فكر في هشيم الجهل.
“إلهة المدن البحريّة” الأمينة على بكاء الرجال، هندستها أدبيّة روحيّة، رصيدها ملايين الأشواق من الأرواح المحرومة.
يصبح القارئ موشوماً بصحو فرح داخليّ، وقبلة حياة جميلة في “أمسيات بلا شموس”، وينشد الألم بفرح لأنه لم يكن الخيال الثامن للصحراء.
كاتبة تجلس مع شيطان الكلمات وقدّيسها، على رصيف معانٍ لا تزول، يتحيّنان الفرصة ليقطعا طريق التجارب بنجاح، “مساجد ضخمة وكنائس فخمة تتجاور ولا تتحاور” في مدينة مخادعة، لم ينعش رطوبتها جفاف حبّ حائر.
هل للقلق لون يا ماري؟ هل الأحمر صبغته؟ أو أصل لونه؟ عندما ننتظر “وعد الألوهة” نتأكد من حمرة القلق، وازرقاق الشفاه واستعارة الشفق لونه من الغيوم الزرقاء.
معجزات تتهادى كالصلوات بين الأناشيد حين يسكن الرجل تحت جلد امرأة، ويخرج “في ما يشبه الولادة المتعسرة: في ألم وأمل”.
أمنيات لوقت مستقطع بعد “الوقت الضائع”، خلال احتفال أدبي مقدس قبل عملية الالتحام بعيداً “عند حدود الوجود”، كالتحام الأجساد في مركبات فضائية ضمن بقعة غير مسجلة في دوائر عقارية. نسمات رقيقة تحمل معها الكلمات تاركة خلفها “رائحة الياسمين التي يكرهها”، عاشقة مزروعة أمنية على حفافي البراءة، تقنع نفسها بأن هذه الرائحة غير مستحبة، ولا يمكن أن تتنشق شذاها إلّا إذا ماتت وولدت في جنون رجل “لن أولد منه إن لم أمت فيه”، إلا إذا كانت تتكلم دينياً نيابة عن الحبّ.
سال عصير الفاكهة من “رحم العالم”، حاملاً معه الأرض والمطر والشمس والهواء، مستهدياً بمسارات الأنجم عبر دروب الرياح التي تعزف سمفونية المجد على أوتار أوراق شجر الحور. إنّها “الساعات”… و”الحيوات” عندما تعرّي الأديبة حقيقة الكاتبة، والقارئة والناشرة. تعرّيها كالشمس الساطعة، في شعور سلس، متموضع داخل طبق على طاولة مطعم راقٍ، خلافاً للمطاعم اللبنانية التي تندمج فيها التقاليد بالتصرفات بالعنتريات… هذا النصّ، أضف إليه نصً “عندما ننسى أنّنا كنّا” يبدو وحي الكاتبة أدبًا نقديًّا جميلًا من كتاب”مواطنة متلبسة بالقراءة” للأديبة غادة السمّان في توصيفها لمسرح اللامعقول، وموجوداته الفكرية والمسرحيّة. أمّا ضمن نصّ “في انتظار شيء ما” فيظهر الحزن المتأهب المؤجل، مرتدياً ثوب الفضول مع ملابس النهار قبل وبعد إزالة قناع التجميل.
عندما تعبر “لحظة كثيفة”، وتنتقل لمقال “خيمة الندم”، تدرك أنّك ستصاب بالسكتة الدماغية الأدبية، من جراء الجرعة الزائدة ( over dose) من الأدب المحبوك الهادف، فتقرر التوقف والعودة لاحقاً للقراءة، مصحوباً بنشاط محمول من شوق للمتابعة.
تحلقون مع الحرية، عندما تخرجون من قضبان الماضي الواعد، إلى الحاضر المر، عبر صوت ينادي بسرٍ: “لا اريد أن أكون ملاكاً بعد الآن”، ففي قصّة “في فيء جناحيها” من هذا الكتاب نجد سجناً كبيراً حولنا، مغلفاً بخطيئة أصليّة، مترجمة بمرض.
“امرأة ورجل” مقال يوحي بأفكار كثيرة، لكن المؤكد هو أن الرجال رجل واحد كالذي غرق في “بحيرة الدموع الزجاجية”.
النص الذي يحمل عنوان “بهاء الولادة” يذكرنا بما قيل لنيقوديمس في الكتاب المقدس: “لا أحد يقدر أن يدخل ملكوت الله ما لم يولد من الماء و الروح”، وهكذا عندما نقرأ “رسائل العبور” نتعمد بحبرٍ، لنتابع رحلة السعي نحو الكمال والجمال.
العبور يشبه المرور على يابسة البحر الأحمر في “ثقل الآخرين” حين ينكسر الصوت خارجاً متوهجاً، كالرغيف من التنور “على عتبة الانتظار” وعلى أيام فراغ بفعل أفعال الاجتياح في “فعل الوجود”.
إختبر أحد العلماء تطور الخلايا فزرع خلية طفل وجعلها تتكاثر، تحولت في النهاية لخلايا سرطانية، وها نحن أيتها الكاتبة نتربع في “حضن التجاعيد” منذ نعومة أظافرنا، يلف أرواحنا تعب كالخط الأزرق. يحضر الحزن، كل الحزن، في “كلّ هذا الموت”. حزن ليس على الموت وحسب، بل على الغياب غير المستحب لمن يحضن الدموع بصدق، في حضور العدم.
أيّتها السيدة بالشكر تدوم النعم “كلمات بسيطة” نقلت شكراً سبع مرّات وربما سبعين مرة سبع مرّات، فمن كثرة تكرار الشكر هبطت نعمة الوعي القائلة “لن أجيب عن السؤال الذي ستطرحه علي، لأني لا أكتب عنك”. أدبك يساعد كثيراً “كي لا تضجر الحياة” بالاشتراك مع مرور النيازك، ورائحة التراب بعد المطر الأول والسير في الضباب… و انتظار الرعشة قبل أن تتثاءب الحياة ضجراً.
“لأنه هو…” يمكنه أن “يدين بالولاء لبلدين، ويشعر بالتمزق بين والدين وعالمين ورغبتين” لكنه لا يستطيع أن يحبّ امرأتين لذلك حين يعبر من الصداقة كانت البرودة تلسع وتقتل.
“في ذلك الصيف” عاد بنا الزمن الى المراهقة التي تمنت يوماً أن يندمج ظل أحدهما بخيال الآخر، إلى درجة الإمحاء، وأن تكون الأجساد الملتهبة هي التي دمجت وبقيت مدموجة الى الأبد، فقد اتت الانتكاسات التي تعرضت لها الأرواح في مرحلة النضوج. “لكل مقال مقام” بالفكر يمكن التعبير عنه بأطروحة من “مواجهة الحياة” في “العلب المقفلة” على “اشباح العابرين”، وصولاً الى “شيخوخة” “سيد الهوى وأسيره”.
“الآن هي حرّة” “في المقهى الإسباني” بعد “موعد مع الالتباس” الذي تتذكره المرأة الوحيدة في عبور جسدها الذي يرفض النوم مع جريدة، قبل أن يضيق المكان لصديقها الذي إسمه الحزن المتأبط للآلام مع “رحيل رجل الأحلام”. وهكذا دواليك عناوين المقالات في هذا الكتاب إذا أفردت ودمجت بتسلسل غير محدد تؤلف قصيدة من إبداع وحلمًا من روعة. لكن المقالات ذات العناوين “حاملة الصليب” و”صلاة”، و”فلأكن أنا” و”أنا مريم” فلها نكهة إيمانية خاصة، لأنّها صلاة تأملية فكرية، تصلح لأن تكون مدخلاً إلى كل فلسفة دينية إجتماعية ثقافية أدبية واندماجية مع الألوهة.
فكر أديبة موهوبة لأولوية الفعل الإلهي، وأولوية الحبّ وأفضلية الدخول الى مآسي الفقراء بواسطة الناسوت الذي يسكن القلوب النقية.
كتاب دعاء وأمل رغم انفلاش ثقافة الفايسبوك، كتاب يدعونا إلى الخروج من قضبان الحاضر المر، إلى صوت ينادي بالشهادات الروحية مع رحلة الإنسانية، لنتلاقى مع الألق الذي يزرع الغفران في أوطاننا.
النصح بالقراءة، والغوص بالأسطر، نابع من استماع القارئ لآلهة مانحة جنان المعاني، بعد فناء الحبر وتكسير الدواة، كي لا تهرب الملذات من قفص الأجساد والهوايات الفكرية من مراتع الفكر. لتسمو تلك الصفحات المتيقظة فوق تلال الوعي لحين افتراش المحبّة للقلوب.
يوسف طراد 26 نوار 2019.