عبثاً تمضي الأيام وفيروس كورونا ما زال يسيطر على البلاد بطولها وعرضها، وأنا ما زلت على عادتي اليومية، ومنفذي الوحيد الذي أجد فيه متنفسي هو المشي في أحضان الطبيعة، ومعي لونا رفيقة دربي وأنيستي في هذه الأيام.
لقد ألفت عيناي الشوارع والأرصفة، حفظت عدد حجارتها وعدد الشجرات الممشوقات على طول الرصيف حتى عدد أوراقها، ناهيك عن الحجارة الصوانية التي تزين المداخل أحياناً، وتلك الحجارة الصغيرة الملونة التي راحت تزداد يوماً بعد يوم، منها ما يحمل ألوان البحر وألوان الفراشات، وقد أثقلتها الغربة، وقضم الوهن والحجر أجنحتها، فانطفأت حركة الحياة فيها برغم ألوانها المتوهّجة المشتعلة، ونامت في ركن منسي تحت الشجيرات.
في كلّ يوم حجر جديد كأنّها عائلة تتزاوج، وتتكاثر، أحياناً أرى الحجارة الصغيرة تبتسم في وجهي، أو هكذا يتهيأ لي، وأحياناً أرى الوجوم في قسماتها عندما يركلها المارة غير آبهين. حجارة ومن يبالي بإحساسها، لم أرد التحرش بها ولم أرد أن أقلق راحتها، وقد عرفت منذ بضعة شهور بعض قصص تلك الحجارة ومن يضعها، ومن ينتظرها بشغف، ويرقب من بين الشجر تلك الفتاة التي لم أعد أراها ولا الفتى.
تُرى ماذا حلّ بهما؟ لم أرد أن أشغل فكري لولا أنّ الحجارة وألوانها بدت تختلف، وتميل نحو الوجوم أكثر فأكثر. مرّ الربيع ومن بعده الصيف وها نحن في الخريف، والحجارة المزيّنة جمدت وبهتت، أقف أحياناً أرمقها بنظرة حانية فضوليّة كأني بي أسمعها تقول لي: “اتركينا وشأننا”.
اليوم كعادتي سرت في الطريق من ناحية الرصيف المسكون بالوجوه والفراش والألوان، كنت شريدة الذهن تعبة من كلّ ما يجري إلى حدّ الملل، لم يكن هناك شيء يدعوني إلى الأمل، لقد طال كورونا، ومعه توقفت الحياة، وأصاب الشلل كلّ شيء، وتسرّب اليأس إلى روحي، وشعرت كأنّني منسيّة على طرق الحياة مثل هذه الحجارة، منثورة على وجه الطبيعة دون أن أسترعي بوجودي فضول الحياة، وكأنّني نصّ فارغ من الكلمات، خالٍ من المفردات، لا حروف ولا ألوان، برودة وثلوج تعلو كياني، وداخلي يدمع، الحزن أكبر منّي، مشرّدة في داري، أقضم حلمي.
كانت لونا مليئة بالحيوية تشدّني كأنّها تريد أن تخرجني من هواجسي ومن حالة الحزن تلك، تحملق بي، وتحثّني لأركض معها حرّة. شددت طوقها بيدي، وزجرتها بصوت أجش، فهدأت قليلاً، وعادت الى الركض وهي تهزّ ذنبها دون أدنى اكتراث بي، تناولت الرصيف من أوله، ورحت أدرس الحجارة، أمسد الوجوه، كم نشبه بعضنا في الحزن والألوان الباهتة، وكم نتشابه في هذه الوحدة القاتلة منسيين من السماء الرمادية. هات يدك سمعت الفراشة وكأنّ ألوانها تناديني، احترقت مع شمس الصيف القوية، وبهتت الابتسامات، مددت أصابعي، مسحت عنها الغبار الذي كان يعلوها، فبرزت من تحتها ألوانها الشاحبة خافتة مثل قنديل مسائي وحيد على شرفة عاشقة يعجّ صدرها بالانتظار كما موج البحر. بم تحلم؟ لا أدري، ولا تحلم العاشقات إلّا بفارس الأحلام، ولكن عيناها التائهتان خجلتان متورمتان تتناولان المدى بنظرة فاحصة. كم نتشابه هذا اليوم، هل هي مصادفة أن يكون هناك حجر على شكل قلب، وزهرتان رسمتا بإتقان شديد باللون الأزرق والأبيض. دهشت، كأنّ في هذا الحجر رسالة لي خاصّة، إنّه يحمل زهرتي المفضلة، وإلى جانبه على الأرض تنام بطاقة بريدية تحمل صورة شاب في مقتبل العمر، قد قذفتها الريح إلى داخل الجب.
تناولت البطاقة، فتراءت لي صورة ذلك الشاب الذي كان يقف على الزاوية تحت الشجيرات على رأس الشارع في أول موسم الوباء، يتأمّل الفتاة التي كانت تترك الحجارة الملونة على جانب الرصيف.
زهرتان رسمتا بإتقان مفرط على صدر الحجر الأملس، وتحتهما عبارة كتبت باللغة الإنكليزية Forget me not”لا تنسَني”.
اخلاص فرنسيس
الصورة المرفقة التقطها من جانب الرصيف يوم كتابة القصة،