سوزان عون
لا تقرأوا ل عبد الحليم حمود
مرعبٌ جداً، أنْ يقرأكَ آخرُون، وأنْ يعرِفوا كيفَ تُفكِّر
هكذا فعلَ بنا عبد الحليم حمود، في روايتهِ (وهمْ الأنا)، كتبَ بطريقةٍ مختلفةٍ عابرةٍ للزمنِ، والمكانِ والأحداث
كأنّهُ يعيشُ في رأسِ كلِّ واحدٍ منّا، وقرأ ذكرياتنا، وكيفَ نُفكّر، وضعهَا على طاولةِ التشريح الفكري، كأنّهُ يَسكُنُ أرواحنا، لا بل ويُشاطِرنا يوميّاتنا
“من صفحة رقم ٣٦ قال الكاتب: كلما أردنا الارتفاع بطبقات البرج، علينا النزول أكثر في أساساته. الماضي أشبه باللاوعي الذي تختزنه المجتمعات، هو مرجعها الأسطوري واللغوي وقانونها في التعامل والتعاضد والخوف المرضي
فهم المنطلقات يفكك عقد الغايات.”
في هذهِ الرواية (المجنونة جداً برأيي وعلى كلّ الأصعدة وأتركُ للقارئ فرصةَ سبرِ أغوارِها الكثيفةِ والعميقةِ والمخيفةِ في طرحِها الجرئ جداً) ومضاتٌ كهربائيةٌ مُنشّطةٌ للذاكرة، ومنشّطةٌ لقلبٍ أصابتهُ سكتةً تاريخيةً بِفعلِ الزمنِ والنسيان، فتخلى عن نبضاتٍ عاشها وعانى مِنها رغماً عنهُ وبفعلِ توالي الأيام وتنوّع مشاكلها
فأتتْ هذه الرواية كصاعقةٍ للفكرِ (صعقة جميلة) منقذةٍ للذاكرة، ومن يعتبرُ نفسهُ ليس مهيأً لهكذا روايات وصعقات، فلا يُجازفُ بالقراءة
قال عبد الحليم: “من زاويةٍ ما تحت الحمراء (حينَ تُوقنُ أنّك تمتلكُ الغابة، ستعتزلُ أصابعك حياكةَ الأقفاص).
جُملةٌ غنيّةٌ عن الوصفِ الوظيفي لها، فهي جملة تتكلمُ عن نفسها بنفسها، لا تحتاجُ لشرحٍ
وقال أيضاً؛ “(في هذي البلاد، الفرحُ ليسَ مهنةَ أحد، وحين نبتسمُ في الأعياد، نزور المقابر لالتماسِ العذرِ من موتانا)”.
كأنّه هنا، يكشفُ عن الشعورِ بالقلقِ إزاء التقصير الذي نقومُ بهِ نحنُ معشرُ البشرِ نحو أُناس عِشنا معهم، ولكنْ خذلناهُم في أوقاتٍ ما
من زاوية “ما تحت الحمراء”(أُصوب فوهة الوردة نحو صدغي، ألطخ الليل بعطرها، أتكوم صريعةً فوق روحي، ومن يدي تتدلى رسالة: هذا ليس انتحاراً، هو اتّحاد أوردتي بالورد، هو سفر نحو الحقول، وما زهر الربيع سوى جمر شظاياي).”
هكذا نوعية من القصصِ تُقلقني، لأنَّ الكاتب هنا، يتحولُ من كاتبٍ يَبعدُ عني مئات الأميال، إلى جنٍيّ أزرق قريب يسكنُ في فانوسِ ذكرياتنا أو إلى ساحرٍ متمرسٍ يسكنُ في البيتِ المجاورِ لنا، أو فجأةً، يُصبحُ منّقِباً بارعاً، يخرجُ لنا بأسلوبهِ المتميز، الكثير مما مضى وربما نسيناه أو تناسيناه، كذكرياتِ الحرب، الطائفية، المعابر، قوات الردع، الرصاص الطائش، الخ، والكثير من المشاعر التي تغيرتْ مع مرورِ الزمن، من وقتِ الطفولة إلى وقتِنا الحاليّ
قلتُ ل عبد الحليم قبلَ أنْ أكمل قراءة الرواية كاملة
أنت لست بروائي فحسب، أنت جن الكتابة، وبت أخاف من جولاتك العابرة للذاكرة والمؤرخة لها
وكأنك تعيش في رأسي، تقرأ ذكرياته
وصدّقني، كل ما كتبتَه من روايات، لن يكون عظيماً بحجمِ الكتابة عنك، لأنك آلة الزمن الناطقة والتي تمشي على قدمين، وباختصار شديد، أنتَ جنّ الروايات
(وهذه دعوة مني لزوجته الإعلامية القديرة نجلاء أبو جهجه، المراسلة الحربيّة المعروفة جيداً في لبنان، بتأليف كتاب عن زوجها الأستاذ الروائي والفنان عبد الحليم حمود)
من التوصيفات الرائعة في هذه الرواية، الوصف الدقيق الذي وصفَ به بيت (ناي) بطلة من أبطال الرواية، من شدة مصداقيّة الوصف وتفاصيله، تمنيتُ بِشدة لو لم يكن هناك ما يسمى بالحرب الأهليّة اللبنانية البشعة، التي حرمتنا الكثير من السعادة وراحة البال، ويا ليت ذكرياتنا في بيروت في منطقة (طريق الجديدة) بقيت لنا وبقي لنا بيتنا بكل ما يحمله من أثاث وذكريات
تخيلوا أن أتجوّل اليوم وبهذا العمر، في بيت طفولتي المسلوبة خلال الحروب اللبنانيّة المتكررة اللعينة، التي حرمتنا الكثير وخسرنا بسببها الكثير الكثير وأعظم الخسارات، وطني الجميل لبنان
الروائي عبد الحليم حمود
روائي من الطراز الرفيع علماً ومعرفةً، لا بل موسوعة معلومات حيّة نابضة، ومن الصعب جداً على الناس الذين عاشوا المرحلة التي يتكلم عنها في رواياته، أن يُفلتوا من الهجمات الشرسة المحببة للذكريات والماضي، وأن يقرأوا ما كتبه عبد الحليم، بدون أن تدمع العينين من ذلك، فهو يحملهم على بساط الذكريات/ الوجع/ الحنين/ الحرب والكثير من المفردات، كأنه يعيش في ذاكرتنا
الروائي، من أكثر الناس امتصاصاً للأوجاع، وأكثر الناس من يتمسّك بالذكريات والتفاصيل الدقيقة
والروائي، أخاط أيامه تباعاً بوجع وعضٍ على الجراحات، يُخرجُ من القراء أصواتاً خافتة مبهمة، يتحدثُ عنهم بصوت عال واضح
وهذا ما قام به عبد الحليم حمود
لن يعرف ما أقصده، إلا من عاش السنوات والمراحل التاريخية عينها التي عاشها عبد الحليم
أما النقطة الأهم والغاية من هذا المقال، هو السعي لحفظ كل شي كتبه من روايات، وأرشفتهِ، ليكون متاحاً في المكتبة اللبنانية للأجيال القادمة الشابّة التي لا تعرف عن لبنان والحروب اللبنانية إلا القليل
لأنه يكتب التاريخ والماضي والذكريات بصدق، وهي دعوة مني لوزارة الثقافة والتعليم في لبنان، بالسعي نحو تحقيق ذلك وتكريم هذا العبقري على مستوى لبنان والبلاد العربية، لأنه كاتب وروائي وشاعر وفنان لبناني، وإنجازاته الأدبيّة تستحق العالمية
غرفة 19
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- حديث الصفحات في كتاب “وطنٌ اسمه فيروز”
- قراءة في المجموعة القصصية (بكاء الشجر) للكاتبة أ/ إيمان أحمد يوسف يوسف
- ابعاد رواية “المسخ” لفرانز كافكا
- رواية النباتية (The Vegetarian) – للكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ