-1-
وأنا أفكر في الكتابة عن اليوم السابع والأخير من رحلتنا التي عبَرنا فيها قرى ومراكز ومدن “سُفلى”، لم أستطع تدوين كل ما عشته جرّاء الزخم الكثير والمتنوع، بالنسبة لي ولغيري ممن رافقونا وشاركونا، ولعلني أخشى خيانة المعاني الوحشية، المتوثبة في دروب نفسي، وهي تتحوّل إلى عبارة داخل نص مطبوع بالنسيان. لكنني ارتضيتُ أخيرا طريقة تَتْياك المعنى والصور والشخصيات، ليس بالعشوائية التي توجد في لعب الورق بعد نهاية كل دور، حين يعمد اللاعبون إلى خلط الورق خلطا يسمّى التّتْياك، لإعطاء اللعبة احتمالا مغايرا في البداية الموالية. بالنسبة لي الأمر يتعلق بتشذير وفق خوارزميات الخيال الأدبي، تجعل منه تركيبا احتماليا جديدا. ونفس الأمر بالنسبة لتاريخنا وثقافتنا، فكل جيل وفي كل مرحلة.. تقتضي الضرورة فرز ومراجعة وإعمال النظر بجرأة في ما تراكم من أفكار وأحكام وبديهيات.
-2-
يحيّرني الصمت الذي يعلو فوق الكلمات ساخنا، وأجدني مندهشا بين الصمت والكلمات، عاجزا عن فرز نفسي عن بقية النفوس التي ألتقيها وأفكر فيها. وهو ما جرى لي في الأيام السبعة التي لم تكن سوى صورة مكثفة لزمن مجازي لامحدود، يعْبرنا عبورا أفقيا وعموديا.
–كنّا مكتفين بما كتبوه ورسموا لنا حدوده.. ها نحن نفتح كوة في لوْح الجدار القديم.. فنرى شعبا من الأمهات والآباء طمروهم خلف النسيان.. منذ قرون.
– اليوم ندين لمن حرّروا فكرنا، وألهموا المغامرة في أرواحنا التي ضاقت بما وجدت مما اعتبروه تاريخنا وثقافتنا.
-3-
قررنا أخيرا الانطلاق فجرا قبل طلوع الشمس. لكن النقاش عدّل اختيار من هذه البداية، وآثرنا تركها إلى النهاية (لاعتقاد متردد في نفوسنا، أننا ولو خرجنا فجرا سننتهي في شباك الغروب)، فكان خروجنا بُعيد الفجر بخطوة واحدة ومع الخيوط الأولى لشروق الشمس، تاركين خلفنا ذاك الفجر مثل ثعبان رمادي اللون، يتلوى.
واصلنا سيرنا، لكن صديقي ذا الحاجب الأشيب، الغاضب دائما والمتأهب كأن شيئا ما سيقع في أي لحظة، فاجأني بعينين تترقرقان لمعانا يشبه لون البرق في شهر أبريل، وهو يقول:
- ماذا تريد يا صاحبي.. وأين تقودنا؟..لم تترك مكانا إلا وطوّفتنا عليه، فجعلتَ من الشاوية كعبة نطوف عليها خلفك منذ ربع قرن، وها أنتَ تُوَسع الدائرة. لم نعد نعرف هل نحن ثوار أم زُهّاد وربما غزاة ؟
التفتُّ أنظرُ هل كان يخاطبني فعلا أم شخصا آخر خلفي.. فلم أجد أحدا. ثم عدتُ أبحث في جيوبي والدهشة تعلوني، وهي حركة أبدّدُ بها ارتباكي. وحينما استعدتُ توازني، فكّرتُ أن السؤال نفسه لطالما طرحته بقسوة على نفسي.. يا نفسي: أين تقُودينني، ولماذا؟
- قلتُ: لعل طوافنا أبهى من الدوران في متاهات بلا هدف، وفي نفق بلا نهاية.
كانت الشمس بصفرتها الفاقعة تُغرق أجسامنا في سيول من العرق المُملح، ثم فجأة ألتفتُ بحثا عن الفجر الذي توارى بعيدا وصغيرا مثل قنفذ تكوّر في زاوية ظلالها تتراقص. نظرتُ إليه فلم يُبدِ أي اهتمام ثم أسبل أجفانه الرمادية ونام.. أو تهيّأ لي ذلك، فواصلتُ سيري.
-4-
صديقي ذو الحاجب الأشيب الذي يكاد يُدخل الشك فينا بأن القيامة تتربّص بنا في أي لحظة، يفعل ذلك ليحثّنا على إنجاز ما علينا إنجازه دون تأخير، وهو حريص أن تكون كلماتنا تفكيرا بالوضوح الذي نتكلم به بيننا.
الوضوح أن تظل سلطة المعرفة سبيلنا، وقد كان خروجنا من تلك المساحة التي حرّرناها، منذ سنوات، من أي تبعية أو سلطة تُفقدنا استقلالية قراراتنا. السلطة التي تدجّنُ وتُرهب وتُجيد خلق إنسان مستسلم للأوهام والنرجسية، فتجعله مقتنعا ومدافعا بلا جدوى أي حركة أو فعل لأن التغيير بعيد !! وأن ما نفعله لن يحرّك ورقة ذابلة داخل عزلة الغابة.
اقتنعنا جميعا أن المعرفة الحقيقية لا تصدر إلا عن عقل حر ومتحرر، يحيا وسط المجتمع ويعيش داخل الصراع الحقيقي والكبير، وليس سجين الذات وأهوائها عبر حساب أو قناة. فالخطر الحقيقي الذي يعيق التغيير يكمن في أمراض جزء من النخبة وشذوذها وانتهازيتها، ووهمها بامتلاك الحقيقة وقدرتها على التبرير والتكفير والاستباحة، وعمائها وصممها وتكريسها لثقافة مهادنة في عمقها، والترويج لها بمفاهيم خاطئة وفاسدة وملتبسة باسم الحداثة والتجديد والتجريب والدين والحرية. وقد اعتقدنا أن مواجهة هذه الفئة، ستُلهينا عن مهامّنا الاستراتيجية، وكنتُ دائما أمنع رفاقي من الانجرار إلى معارك خاسرة ولو انتصرنا فيها. لكن صديقي ذو الحاجب الأشيب يعارضني، دائما، ويدعو إلى تشكيل فريق محدد المهام لمواجهة سلوك هؤلاء الكراطيط، كما يدعوهم.
مُبتهجون أننا نمتلك حريتنا، ونفكر في راهننا ومستقبلنا بطريقتنا، بلا كلل، رغم اقتناعنا أن التغيير الحقيقي ليس له موعد محدد، وإنما هو مرتبط بتحقيق تراكم نوعي في التفكير والمراجعة والنقد والنظر والحوار، وفي التجديد المستمر للأسلوب والأداة والممارسة.
-5-
لفترة طويلة كنا نفكر في ندوة من سبعة أيام في البادية، مؤتمر شعبي نُشرك فيه المتخصصين إلى جانب الفلاحين والرواة الشعبيين. ولم نشرع في التهيئ الفعلي إلا منذ ثلاث سنوات، حينما انطلق الحوار والترتيب مع ثلاثة فرق عمل، كنتُ ألتقي بكل فريق على حِدة، وفي جلسات مُطولة.. نناقش ونراجع ونفكر كيف يمكن أن يكون أي مشروع ننخرط فيه من صميم التفكير في الآن وغدا، وفي الرهانات الأساسية. وكان سؤال الذاكرة والسرديات يحمينا من التيه خارج دائرة اهتماماتنا الرئيسة والتي تتعلق براهننا، ويؤطر رؤيتنا لمفاهيم وكلمات مثل الماضي والتراث والموروث والثقافة الشعبية، لما تعرفه هذه المفاهيم من التباس في التداول والاستعمال.
ومنذ ذلك الحين، كنا نقوم بزيارة للأماكن التي قررنا أن تكون محطاتنا، وتوجهنا إلى جبل تاغيا، مولاي بوعزة، محطتنا وعِماد المشروع برمته.
-6-
هيأنا الإطار العام لهذه اللقاءات، ومضمونه أن هذا الملتقى سيكون مُهدى إلى الفلاحات والفلاحين من المرابطين في أراضيهم، في السهل والجبل، صيفا وشتاءً وفي كل الفصول. لقاء يهدف إلى اكتشاف بعض مظاهر وقضايا الموروث الثقافي المغربي والهوامش الصامتة والمنسية، والتي تُمارس منذ قرون ضمن مسميات متعددة. اخترنا منها “حج الفقير وميراث البهجة”. “حج الفقير” باعتباره صوتا متجذرا في شغاف قلوب الفلاحات والفلاحين الذين لا يجدون سبيلا إلى البهجة المشتركة إلا في خيارات أبدعوا في تركيبها في غفلة عمّا هو رسمي، فطالها التناسي والنسيان، كما طالها العبث وداخَلَها ما ليس منها ولا من القيم العليا التي تجعل العقل قاطرة للخيال وفنون العيش.
أمّا الجغرافيات التي اخترناها، فكانت من دواوير معزولة ومراكز قروية ومدن صغيرة، في عمر بعضها أزيد من ثمانية قرون، ولكنها ظلت مرمية على الهامش، من العوالم السفلى التي سنهبط إليها، وهي: مديونة، بن معاشو،دوّار الجوالّة- أولاد حريز، أولاد امحمّد- امزاب، أبي الجعد ثم مولاي بوعزة الرابضة على قمة الجبل بالأطلس المتوسط. بعد ذلك، شرع فريق واحد، من تسعة أفراد، في ربط الاتصال بجمعيات محلية وأعضاء من الجماعات الترابية المسيرة للقرية، وكان شرطنا ألا تتكلف أي جهة إلا بتوفير المكان وتجهيزه بالصوتيات والكراسي فقط، فيما شرع فريق آخر في التواصل مع الباحثين والباحثات من مجالات التاريخ والثقافة والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، أما الفريق الآخر فقد اهتمّ بالتنسيق مع الباحثين من أبناء تلك المناطق من جهة، ومع الرواة الشعبيين الممتلكين لعناصر كثيرة من المتخيل المحلي المُغذّي للروح الجماعية والهوية الحية، ولفن الحياة والتمثلات من جهة أخرى.
-7-
في أول خروجنا، صادفنا في الحي الخلفي، رجلا طاعنا في السن، من كثرة كرهه لحركة الناس بقي وحيدا قاعدا ومنبوذا، هدّه الزمن فتقوّس نظره وخياله، ويروون عنه أنه اشتهر بخيانة أصحابه والغدر بهم، ولما انفَضوا عنه تمكّن منه العجز، فاختار الجلوس”تقرّدا” في رأس الدرب عاريا إلا من جلبابه الواسع، يلتقط، بعينيه وأذنيه كل ما يجري فيدوّنه في نفسه، ثم يشرع في سبّ الجميع حينا بالصريح، وفي أغلب الأحيان بالترميز، واضْريبْ المعاني ولا يُتعبه رفع أصبعه الوسطى من تحت جلبابه؛ وقد ارتضى أن يتداول الناس عنه أنه مجنون لا يؤخذ بكلامه أو أفعاله، وأنه مستعد أن يكون رهن إشارة أي جهة، في الخارج قبل الداخل.لكن الذي جرى أنه ابتُليَ بهاتف وجعل لها حسابا في الفايسبوك والتيك توك والأنستغرام وقناة يخطب فيها ويجمع الإعجاب !! متحدثا، في كل شيء، فانتقلت حركة رفع أصبعه لتشتغل في التدوينات والمقالات على كل ما يرى أو يصل إلى سمعه حول ساكنة الحي والأحياء الأخرى المجاورة.
واصلنا سيرنا بعدما تركناهم خلفنا، وصاحبي ذو الحاجب الأشيب، يتخيّلهم بين يديه ورق لعب يُتيّكهم تتياكا، ثم يلتفت مبتسما و هو يرى أحدهم يلهث بقلق، دون أن يدري أن الريح يمكنها أن تفاجئه فترفع عنه جلبابه ويبقى عاريا، ولن يجد آنذاك سوى الحفر التي اجتهد طويلا في حفرها، ليرتمي فيها ويستريح إلى الأبد من صخب لم يجنِ منه سوى العزلة الخائبة خلف شاشة موحشة.
chouaibhalifi@gmail.com