أعدت قراءة الكلمات، تخيّلت صوت الوالد، يترنّم بقدوم ميراي، يعزف على كمنجات الحرف، يُخرج لحناً للنور، يتكئ إلى اللغة تمدّه برؤية مستقبلية، وكأنّه يرى ما لا تراه إلّا عيون أب زهت أيامه بقدومها، نسى في محّياها الألم، وابتسم الخلود، وصفّق الوجود والورود. رأيتها فراشة تمشي في ظلّ الأبجدية، أشعلت المدى بنار العلم والثقافة، تنقش الورق والفضاء الأزرق بحضور لافت، ما بين الهندسة والشعر لم تكن هناك هوة عميقة، أليس الشعر والأدب هندسة أيضاً، تهندس النفس البشرية، وتبني الإنسان بأسمى ما يمكن له أن يُبنى، الكلمة الحلوة، سُلب الوالد منها طفلة، ترك شرخاً لا يمكن أن يملأ ويرتق فراغها بشري آخر، فليس هناك مثل الوالد يجعل ابنته أميرة، الطفولة المسؤولة، الطفولة الصارخة من جبّ الوجع على نصل الحرف. رقصت تنزف كلمات تنطق بها الروح، الكواكب من فوق تُحصى كم أب روحي تبنّت، وكم ارتعاشة حبّ في الصدر خطت، عندما أخذت على عاتقها أن تكون لهم الصوت، أولئك الذين غمرتهم ضبابية الكهوف، وحوصروا داخلها، فكانت صوت الحياة الثائر على الوجع، تبني لبنة لبنة بيتها الأشمل، بين جدرانه تزرع الياسمين، يعرش العطر على الجدران، فكرة وقصيدة، وفجر يتمخّض عن غد تكسر فيه قارورة عطرها على أقدام الآخر، لا يهمّ من هو الآخر طالما يمسك زمام حرفه. قرّرت أن تطير، تنتفض كطائر الفينيق رماد العالم عن أجنحتها، لتختار النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها. هنا حرف تائه، وهنا كاتب يتوجّع، وهناك رمز ثقافي وبستان أينعت شجيرات المشمش فيه، وآن أوان الحصاد، هنا فرخ طير، من كفّها ينقر حبّات الأحلام ، وهناك ملاك تناجيه، وتناوله رسالتها المفعمة بالأماني تبتكر ولادة جديدة من غسق الحبّ، بهية ممزوجة بالفرح والأنين. هل تستطيع أن تعبر مرايا عينيه؟ بل عبرت، وكانت تلك الخاطرة التي تسافر بين الماضي والحاضر، وبين الحياة والموت، وفي صدرها قيثارة وقلب لا ينفكّ عن عزف أنشودة الحبّ، جرّدت ذاتها من ذاتها، وكانت الطفلة التي تحبو على صدر الطفولة، من يعرف الحبّ لا يكبر ولا يشيخ، ميراي تناجي ذلك الحبيب، من يمدّها بالقوة
“فأنت قوتي، وأنت زادي، وينبوع خمري يملأ دنان الفلك، وأنت روحي تخفق حبّاً في رايتك، وأنت حبيبي وإن اخترت أن تبقى بعيداً، بعيداً وراء الغيوم وخلف السهل”.
تزداد ألقا ميراي في قصيدة الحبّ، تيمّم قلمها نحو صدرها تغرف، من وريدها، صلاة ، الأرض، وكأنّنا في لبنان تلك الأرض تشهد لنا عن حبنا، تفتح صدرها لتضمّ رفات من نحبّ، فنقع نحن في حبّها، أجنحتها نغرسها في تلك الأرض، نسقيها من دمعنا، ليزهر الربيع في الأجساد، تتعاقب الفصول، وتتعاقب الأحزان وصور التهجير والحرب والبيوت الفارغة من سكانها، التوق والاحتراق للموت، على أعتاب الديار، تحمل ميراي على كتفيها همّ وطن، ولغز أبدية متى ينفك، وننطلق نتخلص من هذا الهباء، ونستند إلى عامود البيت، وتغلق الهاوية فاها، وتكفّ عن ابتلاع الوطن بما حمل. حورية تتبرّج بلون الشفق، يغزل النسيم شعرها، ويشكل الزبد لها إكليلاً، على مذبح القوافي ترفع من جديد أحلامها، لتصير وردة مسيجة بالشوك الذي أدماها، على درب جلجلة من نوع آخر، في سجود وتعبد، وحبّ، لجبران الحضور، نتنفّس ذات الهواء، روحه تهيم لتجد لها مكاناً، وها هي تبحث عن خبز من نوع آخر، عن ثورة قلم، عن بحر محبرة، عن جرح لم يجفّ تبحث فيه عن نزف حلمها الذي انساب على الورق نبعاً رقراقاً كتابة وقراءة، تبحث عن طهر الشفاء
“تزقزق عصافير الشوق على شبابيك أذنيّ وتغنّي، ترجو وتقول، افتحي! اسمعي!،رسائل ترفرف في دفتر رسائلي، اقرئي واسمي للحبّ ثمّ عاتبي الحبّ دمعة أضاعت مقلتها، دون عتاب….”.
يا لها من دمعة، أخبريني –ميراي- كيف للدمعة هذه أن تضيع طريق المقل، من أعطاك الصورة، ومن وهبك هذا الوحي؟ من أيّ نهر نهلت هذا الجمال، ومن خلع عليك الشعر؟ يا أهزوجة الربيع، يا سنبلة تفتّحت بغير أوانها، فكانت حنجرة البلابل، وألحان العنادل، وغناء العشاق، في مساءات لبنان الصغيرة، من سرق قلب الحبيب، من سرق قلوبنا، ونحن ندندن حرفك؟ نتمنّى أن نبصر فيه قصة أول حبّ، وأول دمعة، وأول قبلة، يجلدنا الوجع الصاخب، وينفض عنّا الرماد، نتخذ صفات العاشق والمعشوق، ونعبر نهر الحياة متحدين بأبجدية الحبّ، وبأنفاس ناسكة تبحث عن وجه الله في وجه الحبيب. كواها النوى، وهجر الكرى القلب، أنثى تكوّرت في قبضة الكون من غبار الكواكب نجمة في هيكل النور. إن كنت لا تملكين شيئاً فمن إذاً يملك؟ في زمن نقيق الضفادع، ضاع شدو البلابل فأوجعك، فاتخذت على عاتقك أن تكوني الدليل، تبحثين عن هوية كلّ منّا، في معابد العلم، لنسمع شهقة الولادة ودمعة الوالدة وصراخ المولود يعانق أرواحنا. قصيدة مكتملة أنت، ثقوا بالأحلام، وقطرات الندى تتدحرج على الصخر، تبلّل يباب وردة يتيمة، فيأتي السؤال المكتوم من سنين تبحث عن إجابته، جرح في بؤبؤ العين، شوق للاحتماء والارتماء في حضن الأب، جوهرة تزداد اختناقاً كلما باغتها الحنين لتسمع اسمها منطوقاً من شفتي الأب
“أبتاه رأفة! قلمي ينزف أأنت ربي، جُل عظمك، لم! ويبقى حلمي أن ألقاه هو حبيبي في مهد عشقي ارتمى….”
تتألق من قصيدة لقصيدة، يتسرّب بين سطورها أصوات الأنبياء، وتبسم الأساطير والأحلام، تجتمع في حروفها الأديان قاطبة، خيمة إنسانية بهيكل قصيدتها، ميراي، يشغلها أن تسجن الأفق في كفّها، أثواب العشق ترتديها، تسأل، وتتساءل عن الخلق، عن الطهارة، عن المهد الحزين، عن شفاه يتيمة، عن حياتنا التي تريدها أن تكون كما تريدها ان تكون، أيّ حبّ ارتكبت يداك، في هذا الأفق الذليل، الفصول أنت في الربيع عصفورة الشجن، وفي الصيف موجة وزبد، وفي الخريف غيمة مسافرة، وفي الشتاء الرعد والبرق والمطر، وفي عيون القدر أنت سفر من عتاب، وسورة أب، يغلفك حنين المطر، بالحبّ تحيا، وبالحبّ تحتضر، أسلمت قلبها للتاريخ تحكي قصصه، القصيدة الدهور تراقصه، وعلى مسرح الحياة في دنو وبعاد، حمامة بيضاء تسامر الليل، تحرس النجوم في المساء، وتناغي عنادل اللغة، أحياناً، يولد الآباء أقلام البنات، سردية مطر، وهوية عشق، المرأة بدون أب لا هوية لها، على مدى الجنون، الأب الحبيب الوطن الأقانيم الثلاثة التي اجتمعت في قصيدة هذه البوهيمية التي قرّرت أن تطير، فاتخذت من أوراق البنفسج أجنحة ، وحلّقت في سماء الشعر ليست ككل النساء، تهوى ضجيج العيون، والسكون في ليال صيفية على كتف وديان لبنان، تسمع إيقاع الكون، تتبع صهيل الروح نحو البحر تارة، والجبل تارة أخرى، إلى زمن تتماهى فيه الأديان، ليكون الإنسان دين الأمّة ، تعجن الرجل من صلصال الغيب، تكتبه ما بين مدّ وجزر، تضع بصمة شفتيها على جبينه، يكتوي شهريار بعشقها، تُجلد عن بنات جنسها، لتكون ذبيحة خلاص في عقر دارها، بيدين مضرّجتين بالريحان، من وراء المآسي تنساب بلا كفن كالعود بلا وتر، تعزف الوجع في وحدتها، ويسكر كعادته برحيق الأنفاس دون خمرة، عبور في فضاء العيون العسلية، حيث الأطفال لا يشيخون في مدينة الحبّ
تسأل الكون أن يفتح كفيه لتسكب الألحان، توقد شمس العشق، لغد أفضل، ترتدي الهمس وشاحاً، وتحفر في جلد الغياب نوتة موسيقية تفتح ستائر الربيع، ترشّ الروض برذاذ الأوركيد، وتقتبس من الدمع رحيق المنى والهوى، لتقرأ فصلاً آخر من عمر الكواكب، متى تدحرج الأكفان -يا ميراي- عن جرح يكبر مع أعياد الصلب والقيامة، من يدحرج حجر المغارة، لينبثق النور الأزلي، من غيرك تدحرج حجارة الجهل، تتكئ إلى صخرة اللغة، وبعد انتظار أقدار صماء وسوداء، تتقلّد التيه لتولد فراشة من شرنقة المجهول، وبريشة عاشقة تهيئ قارورة الألوان، تكتب قافية الزمن، نزف الحبيب للحبيب، على صفحة يمّ الجمال، نعبر مع الكاتبة ميراي شحادة، لا نخشى مخالب الأمواج، لأنّنا محلقون في فضاء أوسع من المدى، نتفيّأ تحت أبجديتها، نتقمّص عينيها لنعيش الجنون، ونقرأ أحلام الفراشة في مخمل كفّيها، ومثل عصفور مشاغب، يطارد السحب ليتحد مع الخالق، أو مثل طفلة تعيدنا إلى حضن عشتروت إلهة العشق كلما احترقت تأجّجت حبّاً وإبداعاً، تولد أميرة وبنفسجة، وبيد عنيدة تمسك قلمها المجنون، تلوح بحبر وريدها، فجراً يشرق، ونغمة فوق نغمة
ميراي أرزة لبنان .. فيها يتجلّى الإنسان.. مصباح في مشكاةْ .. حلم أخضر آتْ
إخلاص فرنسيس