هنري زغيب – المصدر: بيروت- النهار العربي
في صفحات التاريخ الفرنسي قصص كثيرة عن نابوليون بونابارت وحبيبته (ثم زوجته) جوزفين بوهارنيه، تراوحت فصولها بين الحب المجنون من الطرَفين( وإِن يكن من جهته هو أَكثر مما لديها هي)، والغضب الجنون (بسبب ما كان يتواتر إِلى كليهما من أَخبار خيانات يرتكبانها نزوة أَو شهوةً أَو انتقامًا).
في هذه الثلاثية نبذة عن تلك القصص وأَمواجها المتلاطمة بن السكينة والأَنواء.
هنا الجزء الثاني من هذه الثلاثية:
الخيانات المتبادلة
عن المؤَرخة البريطانية كيت وليامز (م. 1974) في تأْريخها العلاقةَ بين الأَمبراطور وحبيبته، أَن جوزفين، كي تجذُب إِليها نابوليون، حاولت أَن تتخطَّى إِطارها المحدود في مجتمع ذكوري، كي تخلق بشكلها وحضورها صورة لها جاذبة بذكائها وطموحها. فحيال رسائل نابوليون اللاهبة بالحب، كانت أَجوبتُها قليلةً وشبْهَ باردة، ما كان يغيظ نابوليون. وهي كانت ارتبطَت بعلاقة مع شاب بُعَيْدَ سفَر بونابارت إِلى إِيطاليا. لكنَّ ما بلغها عنه من علاقات خيانية مماثلة، أَيقظَت فيها الغيرة. وانتقامًا، راحت تبذِّر في شكل مجنون، وتمارس عليه ابتزازًا عاطفيًّا حارقًا، ما جعله يبتعد عنها عاطفيًّا ويبدأُ بالتفكير في الطلاق منها.
نابوليون وانشغاله عن زوجته بمعاركه
… وهي تربح القلوب
غير أَن حبَّه إِياها ردعَه عن فكرة الطلاق، وسامحَها إِنما لمصلحة خاصة به. فهي كانت تعكس صورة عنه ممتازة، شدَّدَت من سلطته السياسية بفضل ما كان لها من مزايا دبلوماسية، وبلغَت أَن تكون لها شعبية واسعة، وشهرة ناصعة، وحضور اجتماعي محبَّب لم يكُن هو يتمتع به. لذا غنمَت تلك الشهرة بأَناقة ملابسها ودماثة سلوكها ومجموعاتها الفنية من لوحات وتماثيل وحليّ وجواهر، ما كان يجعلها منافسةً حضورَ ماري أَنطوانيت. من هنا قول نابوليون الشهير: “أَنا أَربح المعارك، وجوزفين تربح القلوب”.
- جوزفين وعشْقها الجلوس أَمام الرسامين
تأَخرَت في العودة إِليه
سنة 1800، تبيَّن لها أَن نابوليون بات ممسكًا بقدَرها الزوجي، سواء نجح في معاركه أَو لم ينجح. كانت أُسرته تَكنُّ لها رفضًا قاسيًا بسبب زواجهما المدني، وعدم زواجهما الديني، ما سبب لها ضعفًا في موقفها. عندها حاولت أَن تصحح من وضعها وسلوكها، وأَن تسانده في طموحاته. ولكن… جاء ذلك متأَخرًا لأَن نابوليون غيَّر موقفه نهائيًّا منها : راح يفرض عليها علَنًا مراقبةً ضاغطة، ويعذِّبها بأَن يُشهِّر بها وبعلاقاتها مع عدد من العشاق.
يرى المؤَرخ البريطاني آدَم زامُوْيْسْك (م. 1949) أَن رغبته الجامحة في التوسُّع الخارجيّ لم تكن ناجمةً عن علاقته المضطربة مع جوزفين، ولا عن حنقه من جوزفين وتصرفاتها. فهو بدايةً لم تكن طموحاته عسكرية بل فضَّل أَن يحكم بالعدل لا أَن يربح المعارك. كان يؤْمن بالحكْم الـمُحْكَم في زمن الحرب، وأَن يربح السلم لا أَن يربح الحروب.
كتاب كيت وليامز عن سيرةجوزفين
طَلَّقها “من أَجل فرنسا”
رفض البابا بيوس السابع التكريس الأَمبراطوري دون الزواج الكنسي، فاضطُر الزوجان أَن يعقدا زواجهما كنَسيًّا (2 كانون الأَول،/ديسمبر 1804 – كاتدرائية نوتردام في باريس) وأَن تَنعم جوزفين بالأَمان لكونها باتت أَمبراطورة الفرنسيين. لكن تلك النعمة لم تدُم لها، لأَن طلاقهما تم سنة 1809 لفشَلها في أَن تلدَ للأَمبراطور وريثًا لحُكمه. من هنا كانت عبارته الشهيرة: “نحن نطلِّق من أَجل فرنسا”. لذا عاد فتزوَّج من أَرشيدوقة النمسا ماري لويز التي وَلَدت له ابنه نابوليون الثاني. إِذًا لم يكن طلاقُه منها ليُرضيه، لكنه اضطُرَّ إِليه بحكم الواجب كي لا يَترك حكْم فرنسا بلا وريث.
لذا، احترامًا حبَّه إِياها، أَبقى لها جميع مكتسبات الأَمبراطورة، وقصرها، وعائداتها المالية. وبالرغم من زواجه وولادة وريثه نابوليون الثاني، ظلَّ على علاقة تراسُلية عاطفية مع جوزفين، وظلَّت هي تسانده، ولو عاطفيًّا، إِلى أَن حُكِم عليه بالنفي إِلى جزيرة “إِلْبْ” في نيسان/أَبريل 1814 فكان ذاك الحُكمُ صاعقًا عليها.
جوزفين وجلسة في الطبيعة كما تحب
هي وهو في النَزْع الأَخير
عند وفاتها (بسبب التهاب رئوي والبعض يرجح أَن تكون بسبب حزنها على نابوليون) كانت كلماتها الأَخيرة: “بونابارت… إِلْبْ… ملك روما…”. وهي تشبه كثيرًا آخر كلماته هو عند وفاته بعدها بسبعة أَعوام في جزيرة القديسة هيلانة: “فرنسا… قيادة الجيش… جوزفين”.
إنها قصة حب مضطرب غير مستقرّ، بين اثنين وُلِدا في مناخ ثوري مضطرب غير مستقرّ. ومع أَن طموحات نابوليون التوسُّعية كانت عسكرية بحتة، لكن وجود جوزفين إِلى جانبه في حياته حسَّن كثيرًا من صورته السياسية.
وإِذا كانت حياتُهُما الشخصية موسومة بالخيانات من الطرَفين، فكلٌّ منهما وجد في الآخر ما كان ينقصه، ما فرضَ على كليهما جوًّا من الاحترام المتبادَل. فعن زاموْيْسْكي أَن نابوليون بقي على إِعجابه بذكاء جوزفين، وعلى قناعته بآرائها وأَفكارها، حتى إِذا شعرت أَنه فعلًا مالَ إِليها بدون علاقاته النسائية، وأَنه يؤَمِّن لها الأَمان الذي كانت في حاجة إِليه، أَمسَت رفيقته الوفية ومَصْدر قوة له.
في الجزء الثالث الأَخير من هذه الثلاثية:
جوزفين راعية الفنون