في عام من الأعوام، لا أتذكره بالتحديد، ضرب فيه الجفاف ربوع المغرب، ومن بينها حقول قريتنا “أيلة”، فهلك الحرث والنسل. لم نكن نملك يومها مذياعا ولا تلفزة في القرية، ولا كنا نعرف شيئا اسمه الأرصاد الجوية. كل ما فعلناه وبشكل عفوي، كان بسيطا، دعونا الله رب العالمين، “عملنا النية”، ورفعنا أكفنا للسماء أن تسقينا، فاستجاب مجيب الدعوات لنا.
اجتمعنا كأطفال وبنات ممن يدرس في الكتاتيب القرآنية أمام مسجد قريتنا في الصباح، وانطلقنا نردد ما يشبه أناشيد وابتهالات لله عز وجل، بعضها كنا نحفظه من قبل، والآخر حفظوه لنا في حينه من قبل في الجامع أو في البيوت.
كان الأمر في تاغونجا يقتصر على الأطفال والبنات الصغار، ولم يشركنا في المسيرة الاستسقائية شباب أو كهول، نساء أو عازبات، كنا مجرد أطفال صغار لم تطأ أقدامهم المدرسة. لم يكن المسار سهلا، كان طويلا جدا وشاقا على أقدامنا، عبرنا فيه دواوير ومداشر عرفناها لأول مرة، وكانت السماء صافية لا أثر لبياض سحاب فيها أو غيمة عابرة، ولم تكن نسمة ريح تهب علينا في مسيرتنا. كان عتادنا يقتصر على ألواح خشبية كتبوا لنا عليها خربشات ورسومات غير مفهومات وآيات قرآنية، وبين أيادينا قصب وأعواد طويلة تستعمل في جني الزيتون أو ما يعرف محليا ب”المسقاط”، تنتهي بعقدة فيها”درة” أو ما كان يعرف ب”سبنية” كغطاء لرأس المرأة، ولما يكن الحجاب في عاداتنا ولا تقاليد لباس نسائنا. كان المنظر مهيبا بابتهالاته وألوان “درات” و”سبنيات” النساء القرويات.
تعبت أقدامنا وقد كنا حفاة، وكان من شروط طلب المطر أن نتحفى، وأن يقتصر الأمر على الأطفال من الإناث والذكور، كما تقتضيه طبيعة الاستسلام لرب العباد ومسقط الغيث من السماء، بدعوى أن الأطفال أبرياء، وأن طلباتهم مقبولة عند رب السماء، وإن كنا في الحقيقة غير ذلك.
كانت أفعال بعض الأطفال منا لا يقدر عليها حتى الشياطين أنفسهم، ولكن الأعمال في الأخير تبقى بالنيات، ونياتنا كانت حسنة. أغلبنا كان متعودا على المشي حافي القدمين، ولم يكن شيئا جديدا علينا، لأن شراء الأحذية في وقت طفولتنا، لم يكن في متناول الجميع، ولم نكن نقتني الأحذية إلا للضرورة مرة في السنة، وخصوصا مع مواسم الدخول المدرسي، وحتى في المدسة كان أغلبنا حفاة، وكثير ما تحضرني اليوم تلك الأرجل الحافية، وهي معلقة ترتعش من قسوة البرد فوق الإسمنت، لكي تتفادى رطوبة الزليج أو بياض الإسمنت.
والله ما اقتربنا من إكمال دورتنا، ونحن على مشارف الدوار قبل العصر بقليل، إلا والمطر يعصف بالأرض عصفا، يسقط مدرارا من كل الجهات وحيث لا نراه. غشينا الرعد والبرق يزمجران بين الوهاد والوديان والكديات، ولم تستقم نفسياتنا إلا بعد أن استقبلنا الأهل محتضنين لنا من شدة خوفهم وحرصهم علينا من أن تجرفنا السيول. فشتان بين نية تاغونجا زمان، وصلاة الاستسقاء اليوم..!!