د.علي حجازي
أنا مجرم؟ ما هذه التهمة الجديدة، وما أسبابها؟
فهل اقدمت على ذبح ابنك، لا سمح الله؟
د. علي حجازي
انتحيتُ جانباً، وربضتُ في ظلّ سنديانة وارفة، منقطعةً عن القطيع، مع انّ العشب الربيعي النضر مغر، ورحتُ اتملّى المشهد اليومي المملّ الذي أصابني بالضعف والهزال، وجلب إليّ الهمّ والحزن فأخذت أهمس
“مشهد هذا الراعي الذي يمشي في الأرض مرحاً، وهو يرقب سير القافلة، يُصيبني بقرف شديد، فلكم سمعته يدّعي أمام أقرانه الرعاة، أنّه اوّل من وضع نظام القطيع ورتّبه
الحمار في المقدّمة، يتبعه المرياع مثل ظلّه، وراءهما تمشي الأغنام متّخذةً من المرباع قائداً فذّاً لا يجارى. الكلب المخصيّ يهرول ذات اليمين وذات اليسار، موزّعاً شاراتٍ أنّ الأمن مستتب، فلا ذئاب ولا من يعتدون
كانت عينا الراعي تلصّان مثل عيني ذئب خلال تفقّده القافلة، ولكم كان غضبه شديداً عندما لم يجدني، فأسرع يعدو صوب السنديانة. هو يعرف أنني أحبّ هذا المقيل، بعيداً عن القال والقيل، فرآني ممدّدة، وساهمةً أفكّر، ولمّا أبصر الدموع ترتسم خطّين على وجهي النحيل، تقدّم مني شاهراً عصاه الغليظة، طالباً إليّ الإسراع بالعودة إلى القطيع، والمباشرة بالرعي، وقال
– ألا ترين الهزال الذي حلّ ببدنك؟ أنت الآن تخسرين وزناً يفقدني مالاً، في حال قررت بيعك أو ذبحك. ثمّ لمَ تذرفين دموعك؟ ما السبب قولي
– أنت الذي تسألني الآن، متجاهلاً الأمر الذي جعلني حزينةً تاعسةً؟ أنت راعٍ قاسي القلب، لا تعرف الرحمة ولا الشفقة أبداً
تغضّن وجهه بغضب شديد وأجابني
– الحقّ عليّ، فعند اختياري مولودك ليحظى برتبة “مرياع القطيع” ظننت أنّني أحمل السعادة إليك؟
تنهدّتُ تنهيدةً طويلةً وأجبته
ألم ترتكب جرماً عندما فصلت بيني وبين ابني منذ لحظة ولادته التي رأيتك فيها تغطي عينيه برقعة قماش كي لا يراني؟
ألم تشعر بالأسى، وأنت تحرمه اللبأ الذي يمنحه المناعة والقوة، وتمنع عنه حليبي؟ نعم، أنا أبصرتكَ، بأم عيني، تُرضعه من أثداء حمارة تارةً، ومن زجاجة حليب كنتَ تُخبّئها في خرج الحمار تارة أخرى
– أين الخطأ في ذلك ؟ فحليب الحمارة مغذٍّ أيضاً
لا ليس هذا ما ترمي إليه أبداً، إنّما هدفك هو أن يكون خروفاً شكلاً، وحماراً مضموناً. ثمّ أنت مجرم
أنا مجرم؟ ما هذه التهمة الجديدة، وما أسبابها؟ فهل اقدمت على ذبح ابنك، لا سمح الله؟
أنت قمت بذبحه فعلاً حين قمتَ باستئصال خصيتيه سعياً وراء تسمينه، وحرمانه الإنجاب، والتفرّغ إلى تحقيق هدفك في جعله قائداً مطيعاً، يرهبه القطيع، وينفّذ أوامرك بحذافيرها
بل هدفي الأساس هو جعله صاحب جثةٍ كبيرةٍ عامرة، وقرنين مهيبين، وصوف طويل يغطي قوائمه
نعم، وهذه الهيبة لا تكتمل إلّا بجرس كبير يطنُّ على الدوام، وشرائط ملوّنة ألواناً عديدة يظنّها هو أوسمةً فينتفخ، ويفقد، والحال هذه، التفكير. أنت تعرف انّ الحمار المخصيّ يصبح “طواشة” أي خفيف العقل، قليل التركيز. فيسير الحمار ويتبعه المرياع معتقداً أنّه والده. وقائداً أعلى يُقتدى. أجل، أنت الذي تسببت لي بما وصل إليه ابني الذي صنعت منه شكلاً مهيباً، يمرّ بي ولا يعرفني، أدنو منه فيبتعد عني. ثمّ، إنّك تغشّ هذه الأغنام المسكينة بمنظر مرياع ٍ من جنسهم وغير منتمٍ إليهم. آه! ماذا أفعل يا ربيّ؟ أاصارح القطيع بالحقيقة المرّة؟ هيّا أجبني. أتحبُّ أن أبوح إليه إليهم بالسرّ؟ قل
– هاه، وما هدفك من وراء ذلك؟
أحبُّ أن تعرف ربيضة الغنم هذه أنّ الحمار المخصي المغطّى بجلّ جديد، ورسن ملوّنٍ بخرز متعددة ألوانه، ملفوف حول الرقبة هو القائد الأعلى المكلّف بقيادة القطيع، وأنّ المرياع الذي تهابه الخراف مخصيٌّ، ولا يعرف أمّه، ولا قرار له أبداً، فهو تابعٌ إلى تابع، نعم هو تابعٌ حماراً لا يحلّ ولا يربط؟
ما رايك لو بيّنت لهم سرّ هذا المشهد الخادع، والفارغ من أيّ محتوى؟
ارتعدت فرائص الراعي لدى سماعه هذه التهديدات الجديّة الموثّقة بالأدلة والقرائن، فشرع يُتمتِم بصوت مسموع ومرتبك
ما الذي يحلّ بهذا القطيع لدى معرفة حقيقة قائده المرياع المخصيّ الذي يتبع خطى حمار مخصيّ هو الآخر مع كلب
قال ذلك، وحدّق إليّ بغضب شديد، وراح يتوعدني-
لا أبقاني الله إن أبقيتك حيّةً. تعالي معي إلى لحّام القرية-
سرت أمامه على مهل، غير مكترثةٍ البتّة، فأنا لم أعد راغبةً في هذه الحياة التي يقودنا فيها مجموعةٌ من المخاصي. ولكم كانت مفاجأتي كبيرةً عندما أبصرنا معاً الحمار يربع مسرعاً صوبنا، يتبعه المرياع الذي كان طنينُ جرسِهِ يملأ الأرجاء على غير انتظام معروف منه. أمّا الكلب فأقعى، وراح يلفّ ذنبه علامة الذلّ الذي هو فيه، ويعوي بانكسارٍ رسالةً منه ينعى فيها القطيع
– أغمضت عيني قليلاً، وشرعتُ أستعيدُ صورةَ المشهدِ المؤلم، مشهد قيام ذلك الرجل الغريب الذي حضر مرتين من قبل، بهدف إخصاء الكلب والحمار، حيث قام في المرة الأولى بحشر الكلب بين درفتي المشتى، رأسه مع الجزء العلويّ من جسمه خارج الباب، أمّا الجزء السفليّ فداخل المشتى، عواء الكلب وصل إلى مسافات بعيدة ، وفي المرة الثانية تمّ إخصاء الحمار
– تركني الراعي، وطفق يعدو صوب المرعى، وبعد ساعةٍ عاد مهزوماً يجرجر أذيال الخيبة، مثله مثل قيادة قطيعه المفجوع، وهو يلعن الذئاب والكلاب والحمير، دنا منّي، والشرر يتطاير من عينيه، وسرعان ما استلّ سكيناً ، شرع نصلها الحادّ يلمع في عين الشمس الشاهدة الوحيدة على مأساتي ، ذا لأني تجرّأت على كشف خيبته المرّة، وفشله الذريع في اختيار قيادة قطيع تمزّقت لحوم خرافه وجلودها بين أنياب ذئب ربض يتربّص انشغال هذا الراعي الأرعن بذبح نعجةٍ، وسلخ جلدها ، لأنها وجّهت إليه نصيحة مؤلمة
توجّه صوبي، أمسك رقبتي، وقبل ان يعمل السكين حزّا فيها، نظرت إلى وجهه المحتقن بالغضب والقهر، كان يتصبب عرقاً غزيراً، تنهّد تنهيدة طويلة ً وراح يتحدّث بكلام مسموع عن خسارته قطيعاً فتك به ذئب غادرٌ كان يتحيّن فرصة غيابه، فأسرع يعمل قتلاً بالنعاج، محقّقاً إشباع نهمه في اللحم والسيطرة على ما تبقى من القطيع
– نعم، الحقّ عليّ، لعن الله تلك الساعة التي أوليت فيها القيادة إلى هذا اللمم، من الأشكال الفارغة التي أوصلت قطيعي إلى هذا المصير المنتظر، منذ زمن
قال ذلك، وحدّق إليّ مرّةً، وإلى المرياع والكلب والحمار أخرى، وتابع
يكفيني ما أنا فيه من التعب، الآن، سأؤجّل ذبح هذه النعجة إلى صباح الغد، ثم أجهش بعد ذلك بنوبة حادّة من البكاء
د.علي حجازي