للكاتب الدكتور زياد بشاره أفرام
تلوح على النعوش المارة في ساحة القرية، ونسيت أنه في إحدى تلك الصناديق ضناها، الذي خسرته في معركة كما يقال للتحرير! وأخر فقدته وهو منتظراً أخوه جنب النهر، ليجرفه ولم يستطع المقاومة، ولم يستطع تحرير نفسه من الغرق.
كانت تلوح وتهلل عن الكارثة التي ألمّت بها وجرحتها وحطمتها، ونسيت ما عانَتهُ غِير مبالية بالماضي الأليم، الذي اجتازته لتربي أولادها، نسيت عندما كانت تعمل بجهد، ولم تتوانَ يوماً عن تقديم الأفضل لهم، نسيت الأيام التي كانت تشتري الحاجات لمنزلها، لتحملها بيدَيها متوجهةً إلى البيت، لتحضر لأطفالها ما لذ وطاب. نسيت وقتَ كانت تنتظر أولادها لينتهوا من الطعام لتأكل. نسيت كل شيء. ونسيت آلام الولادة الصعبة الطويلة.
لكنها لم تنس أن تودع فلذات كبدها. ولم تنس أن تنظر النظرةَ الأخيرة إلَيهِما، لتودعهما بشلال من الدمع الصامت.
لا لم تهلل عندما اقتربت منهما، بل قبلتهما وداعاً، ليَفطُرَ قلبها، عندما شمّت رائحتهما. فيا لهذه اللحظات الطويلة لها.
ما ذنب هذه المرأة لتخوض حرباً بداخلها، ولتتكسر جميع حواسها.
ما ذنب عاطفتها لتفقدها، بعد أن يواروا الثرى.
ما ذنب ما حصل لتبحث عن حنانها في أروقة الشوارع المظلمة الفارغة.
جلست منهمكةً متكسرةً على حافة الطريق، لتناجي ربها، كي يعيد إليها ما فقدت حتى ولو بالاستعارة! فأي مَعصِيةً عصيتك يا ربي! لتسترد قلبي ودمي، قبل أن تستردني.
لماذا تلطمني بهذا الكف، ليكون كأساً مراً. فما عساي فعلت لأستحق ذلك العذاب! أ، فأنت ربي والهي الرحوم، لماذا لم ترحمني.
لماذا أهدرت لي كل هذا التعب منذ أن وهبتني ضناي. أكنت أستحق أن تسلبني الاثنين معاً.
أكنت أستحق أن تدمر كل ما بنيت.
الم تكن على علم بأنني أم! الأم التي ضحت بكل شبابها، وبكل ما لديها لتفرح بهم.
الم تكن تعلم أن هذه الهدية هي من أثمن الهدايا.
الم تخاطب والدتك وتسألها عندما غادرت أنت هذه الحياة، وعذبوك، وصلبوك.
الم تكن تدرك بسلبك لي، أنك تدمرني وتُقَطِع أوصالي.
لم أعصي مشيئتك يوماً! ولكن أرحمهم وارحمني، ودعني أقابلهم في بيتك، حيث لا عذاب ولا آلم.
أرجوك أن تعدني بذلك لتصبح الآلام أخف، وليولد عندي رجاءً وأملاً.
ربي والهي الا يكفيك بأنني عشت فقيرة، لا بل غير ميسورة. وكنت أشكرك رغم ذلك. كنت من أغنى نساء العالم! عندما رزقتني هذه السعادة.
ربي والهي أطلب منك أن تسأل والدتك، عن معنى الفراق والعذاب، حينما يأتي الليل، ولم تكن أنت موجود. أتظن أن مع الوقت تزول الآلام، اسألها لأني أقول لك: لا لن يتقلص بل سوف يكبر مع مرور الزمن على الفراق. من ناحية أنني لم أعد أرى وأشتم رائحتهما الفريدة، ومن ناحية أخرى أفكر بعذابهم بعيدين عني، لأنهم مهما كبروا يبقوا بحاجة لي! أنا الأم.
الا تود أن تعود عما فعلت بي! أرجوك يا رب! بل وأرجو والدتك العذراء، أن تنهرك عن الفعل الذي فعلته. وتشرح لك أنني أم.
وقفت بعد عناء وتعب، لتدخل بيت الله للوداع الأخير. وما أن وصلت المقاعد الأمامية قرب النعشَين، وقفت تبكي بصمت! ناظرةً إلى المذبح، منتظرةً من الله أن يرحمها! وليسمع ما سألته. لتسأله للمرة الأخيرة: يا رب أعد لي ما سلبته مني!
وعند الساعة السادسة صباح الأحد، بدأت أجراس الكنائس في القرية تُقرَع، معلنةً للمؤمنين وقت الصلاة. نهضت من فراشها على هذه الأصوات الجميلة الرنانة، وإذ بها تلامس وجهها وجسدها لتتأكد، بأنها كانت في حلم لا بل في سبات طويل، توجهت على الفور إلى غرفة أولادها، ليهدأ قلبها عندما شاهدت أبناءها في فراشهم، وبينما هي داخلةً أحدثت ضجةً بحركتها وبصوتها تنده لهم، وقفت تبكي! ولكن ليس بصمت، وتهلل لله بصوت عالٍ شاكرةً إياه، ركعت وسط أسرة أولادها، فاتحةً يَدِيها كلٌ على سرير، واستمرت بالصلاة والشكر. لامسوا يدها أولادها وصلوا معها، وفي لحظة الانتهاء من هذه الصلاة، وتلك اللحظات، غمرتهم معاً وتقبل يديهما وهي تقول: شكراً لكِ أيتها الأم الحنونة، أيتها الأم العذراء.
مسح ابنها البكر دموعها، كما قبّلَ يدها ابنها الأصغر، ليسألاها عمّا حدث، وهما متفاجئان بوالدتهم وعن طريقة تصرفها في الصباح الباكر.
بعد أن سردت لهما ماذا حَلُمت بالتفاصيل، وكيف ناجت الله العلي القوي العظيم، ولم تتوقف عن الكلام بل طلبت منهما أن يرافقاها إلى الصلاة وفي الحال، طبعاً لم يرفضا لها طلباً من قبل، فكيف هذا الأمر. توجهوا معاً إلى بيت العبادة، تقدموا إلى جنب المذبح، وركعت وهما على جانبيها، لتنظر إلى الأيقونة في صدر المكان! لترى بأنها نفس الرمز الذي ظهر لها في سباتها العميق، شدت على يد أولادها، وبدأت تصلي على الملاء معهم!
وعند انتهاء الصلاة توجهت إلى الكاهن، وشرحت له عما ظهر لها في حلمها! ليقول لها بأنها علامة، وخير ما فعلت أن تأتي مع أولادك إلى الصلاة.
خرجت إلى الباحة الكبيرة أمام بيت الله عزّ وجلّ!
وعلى أعلى الدرج غمرها أولادها.
“وقفت تضحك”.