في الغناء يحدث ما يحدث مثلًا في صناعة السيارات أو في صناعة المأكولات. قديمًا كانت تنتج سيارات “لا تحرق ولا تغرق”، على ما تقول العامَّة. ونادرًا ما كان مالكها يضطرُّ إلى تغيير قطعة واحدة فيها. فهي أبديَّة، هيكلًا ومحرِّكًا، وحتَّى شكلًا وطرازًا. واليوم، كيف يترجم المفهوم الصِّناعي السَّابق، في هذا المجال؟ لقد نُسف عن بَكرة أبيه، لتحلَّ محله الرَّغبة في الرِّبح السَّريع والتَّغيير المطَّرد والإغراء والإثارة في الشَّكل. فهل من سيَّارة تصمد، ولو دارت على طرق سليمة مئة في المئة، خمس سنوات من دون مشكلات؟ وهل قطعها بمتانة قطع السَّيارات القديمة؟
قديمًا عاش آباؤنا وأجدادنا على البطاطا والحبوب وأحيانًا اللَّحم النَّيء والفوارغ والمقادم، وكلٌّ من هذه الأطعمة كان يسمَّى “مسامير الرِّكب”. وكانت المؤونة تتطلَّب أشهرًا من العذاب والتَّعب لتحضيرها، مستوفية شروط السَّلامة والصِّحَّة. أمَّا اليوم، فمن يعرف ما تعنيه كلمة مؤونة؟ ومَن منَّا لم يستعض عن طعام الماضي بالـ “فاست فود”، بما يحويه من موادَّ مسبِّبة لأمراض ومشكلات صحِّيَّة كثيرة.
إنَّها السُّوق الرَّاكضة خلف الرِّبح السَّريع والسَّهل، ووتيرة الحياة السَّريعة والمتسارعة الَّتي ستصبح يومًا ما، وقريبًا ربَّما، واحدة في أنماطها وأشكالها، في كلِّ بقاع الأرض. إنَّها، في اختصار، “العولمة” الَّتي تنتج أشكالًا ومفاهيم، في مختلف المجالات، وتسعى إلى تعميمها أينما كان، ليسهل على أرباب الصِّناعة والتِّجارة في العالم، تصريف إنتاجهم بأقلِّ وقت ممكن، وبأكبر مردود مستطاع.
وقديمًا، كانت هناك ممثِّلات ومغنيَّات وممثِّلون ومغنُّون، في الغرب، أسروا مشاعرنا بكلِّ لفتة أو همسة صدرت عنهم… فكانت الشُّهرة والنَّجاح لمن هم أدنى منهم مستوًى. فما مقومات ماريلين مونرو، الجماليَّة والتَّمثيليَّة، مقارنة مثلًا مع ريتَّا هيوارث؟ تلك ما زالت رمزًا للإثارة والجنس، وهذه كثر لم يسمعوا بها حتَّى. وقس على ذلك، جيمس دين وغريغوري بك، وألفيس برسلي (على أهمِّيَّته) وتوم جونز أو فرانك سيناترا. ثمَّة ميل في الغرب، تلقَّينا عدواه في الشَّرق، أن يصنع أساطير، ولو مزيَّفة، يسوِّق بها ومن خلالها، مفاهيمه وبضاعته. قد تصنع دمية مثلًا شبيهة بمونرو أو بريجيت باردو، وتلقى رواجًا هائلًا، ولكن إذا كانت دمية تمثل إديث بياف أو جاك بريل، فهل من يشتري؟
إنَّه عصر الصُّورة المبهرة ليس إلَّا. عصر فرضه تطوُّر وسائل الإعلام، وتلقَّفته شركات الإعلان والتَّسويق، متَّكئة على أموال أمبراطوريَّات الصِّناعة والتِّجارة الَّتي تريد لمنتوجاتها انتشارًا لا تغرب الشَّمس عنها لحظة.
هذه هي حال الغناء اليوم، ومثلها حال الفنِّ في العالم. كسر للتَّقاليد والأعراف والبديهيَّات، انطلاقًا من مفهوم حداثة لم يكتمل بعد، وحتَّى في عدم اكتماله، ولَّد مفهومًا أكثر غرابة وربما عبثيَّة، هو الـ “بوست مودرنيسم”، وانطلاقًا أيضًا من عقيدة “التَّفكيكيَّة” السَّاعية إلى ضرب أيِّ مفهوم قديم، ولو كان في مستوى الثَّابتة.
قد تنجح هذه المحاولات وتلقى لها صدى شعبيًّا وقبولًا، في دول أو مجتمعات كثيفة السُّكَّان، أو متنوِّعة الثَّقافة، لكنَّها تبدو غريبة، أو معزولة في الدُّول الصَّغيرة أو المجتمعات التَّقليديَّة أو المتجانسة.
إنَّه عصر الجوهرة غير الصَّحيحة (FAUX BIJOU)، تندر الألماسة الحقيقيَّة فيه، وحين تباع فبمزاد علنيٍّ يوازي مردوده حجم موازنة دولة في العالم الثَّالث، لتحلَّ محلَّها الأحجار المقلَّدة فتصبح في كلِّ بيت، وعلى كلِّ عنق وفي كلِّ معصم.
الألماسات الغنائيَّة نادرة اليوم، ومحجوبة تقريبًا، والفرق بينها وبين الألماسات الحقيقيَّة أنَّها لا تباع ولا تشرى، بل تتماهى مع كلِّ نفس تائقة إلى الاكتمال بالجمال والفرح. لذا تبقى وتخلد، لأنَّها تقبض على الماضي، وتحتلُّ الحاضر، وتجد لها مكانًا مهمًّا في المستقبل، أي إنَّها لا تكون وليدة لحظة، وبالكاد تعيش للَّحظة التَّالية، كما هي حال بعض “نجوم” الغناء اليوم، وهم أشبه بقنِّينة مشروب غازيٍّ، ترمى بعد ابتلاعها وانتفاء الحاجة إليها.
قلنا إنَّها مسؤوليَّة السُّوق، في درجة أولى. ولكن ألسنا نحن أيضًا مسؤولين؟ كلُّ ما سبق مفهوم، وعلينا معايشته، فلنعشه على الأقلِّ، بما يجعل لنا رأيًا مسموعًا، ويبقي بعض قيمة وأخلاق. فماذا يضير محطَّة تلفزيونيَّة أو شركة إنتاج، بخاصَّة إذا كانت تنظر إلى الفنِّ رسالة لا مجرَّد تجارة، وتقول إن ليس في يدها حيلة لتقاوم مفهوم السُّوق هذا، أن تخصِّص برامج، وإن لم تكسبها ماديًّا (وأشكُّ في ذلك)، تغطِّي نفقاتها من مردود البرامج التِّجاريَّة التَّسويقيَّة، للفنِّ الأصيل وصورته الحقيقيَّة، لإمتاع فئة من النَّاس “توقَّف” عندها الزَّمن على عقرب الأصالة؟ والأصالة هنا ليست قالبًا جامدًا، بل هي روح قوامه الجمال والبساطة والحس الإنسانيُّ ليس إلَّا؟ وعليه، تكبر كرة الثَّلج هذه لتطاول أكير شريحة من النَّاس.
مسؤوليَّة تنبع من إرادة ورغبة أوَّلًا وآخرًا، فهل من يريد ويرغب، ولو لم نوفَّق مثلًا بفيروز أخرى أو وديع الصافي آخر في المدى المنظور، لأنَّ هذه المواهب، أو العطيَّات الإلهيَّة، لا تتكرَّر في حياة الشُّعوب، إلَّا كلَّ مئتي سنة أو أكثر. فنحن نكتفي بمن هم أقلُّ منهما جودة، لأنَّهم سيكونون جيِّدين بما يملأ حياتنا فرحًا ويحاكي مشاعرنا الإنسانيَّة.
أللَّهم إني بلَّغت.