عبير حسن علاّم
ها نحن نقف معًا على مشارف عامنا الثالث
عامنا الثالث
أكتب لك نصًّا احتفاءً بالمناسبة منذ شهور
أخزِّنه لضيق الوقت وكثرة الانشغال… حتى صار النصُّ عبارةً عن صناعةٍ تجميعية لِما علقَ بغياهب ذهني بين فكرةٍ وأغنية وما تجمَّد في ثلَّاجة عقلي وما حفظته خزائن قلبي وتحفظه لك منذ سنتين
صار من النادر أن أكتب يا صديقي؛ فالحرب تُلهينا.. الحرب تُلغينا
ماذا تبقَّى للحبِّ إذًا!؟
لم أتوقَّع يومًا أن أقف على المشارف المَدارية لهذا الرقم معك؛ فجميع قصصي انتهت بوصولها إلى هذا العدد، وكلُّ التغيُّرات والتمفصلات في حياتي صغرت أم كبرت تحصل بقدومه. حتى اعتدتُ أن أحزم حقائبي مُسبَقًا فأكون جاهزةً قبيل هبوب رياح المايا وأرحل معها حين تأتي
لِذا، فإنَّ عينيَّ اغرورقتا بالدموع لمجرَّد التفكير بأنَّ العدَّ العكسيَّ نحو النهاية قد بدأ. وربَّما عليَّ أن أفتح جرحًا اليوم كي لا أقف عاجزةً عن إيقاف النزف بعد شهور. فأنا أعلمُ بنفسي. وأنا أعلم أنَّ الرياح آتيةٌ لا محالة، وسيعود “المايا” الذي بداخلي إلى ابتداء الرحلة
نعم، هي هواية الارتحال اللاإرادية في نسيجي، تلك التي ليست بيدي ولا أملك حيالها أمرًا ولا نهيًا؛ فهي لا تحصل معي، بل إنَّها تحصل لي كروحٍ تحلُّ بي كلَّ ثلاثة أعوام فتقتلع أنايَ من أناها وتدخلني في دوَّامة ال “من أنا؟!!” وال “ماذا بعد؟” وال “ماذا إذًا؟”
فماذا لو استبقتُها على غير عادتي في هذا العام وأوقفتُ العدَّ باتجاه المفرد لنبقى واحدًا في اثنين؟ ماذا لو تدخَّلتُ في حركة الكواكب والنجوم ومرابط الريح؟
كلَّما أمطرَ ببالي هذا الغرائبيُّ الذي عشناه وكيف تعصف بنا شهوة الشفاه حدَّثتني نفسي مؤكِّدةً أنَّك نكهة الفردوس والنيرفانا. فأيَّ خلودٍ بعدُ أريد؟
كمنتْ لي البدايةُ في أنني لا يمكن أن أُغرمَ برجلٍ ليس بينه وبين الجنون نسب
وتربَّصَ بي الخوفُ في كلِّ منازلي التي كم عشقتُ طوال سنين.. وخرجتْ منِّي كأن لم نكن
لِذا أردتُ أن نكون بمنأى عن أمراض الشعراء النسائية وعوارضهم المفاجئة النسوية وهورموناتهم المزاجية حتى لا أصطدم مُجدَّدًا بجليد الخيبة. أتَذْكُرُ أنَّ الخيبة كانت أوَّلَ الحديث بيننا؟ وأنَّني إليكَ التجأتُ لأحتمي من أعاصير الحب؟ وأنَّكَ لجأتَ إلى دفء علاقةٍ خفيفةٍ تُخرجُك من التزامات الحبِّ المُرهِقة؟
لِذا كانت الطريق هذي المرَّة عكس المسارات وكان أن وقَّعنا اتفاقنا: لا حُبَّ في ترسيم الحدود ما بيننا
وبعد شهورٍ: أنا أحبُّكِ/كَ ولكن، فلنُسمِّه أيَّ شيءٍ إلَّا الحب
فإذا بالحبِّ قد انقضَّ في غفلةٍ من عقلنا الأمين، وكان يرتسم ويترسَّخ وينام بيننا كطفلٍ مُسالم. وإذا بنا قد ربَّيناه في أحضاننا لِيَلتهم قلبَينا اليومَ حتى النخاع
هو الحبُّ يهاجمنا حيث لا نتوقَّع
وقد كتبتُ فيك كلَّ ما فيك، فإذا بي لم أكتب شيئًا يُذكر، إنَّما شُبِّه لي
فكلَّما أنهينا في العشق سطوره
عُدنا أوَّل السطر في ابتداء الكلام
أنا لا أشعر يا صديقي بالمسافة ولا أعترف بها. فحين “تنزل” لِملاقاتي تحلُّ بين ربوع قلبي، وحين تغادر صعودًا بين تلك الجبال تتسلَّق طبقات روحي
أجل، تتسلَّق طبقات روحي نحو سمائنا التي أعشق/نعشق
أنا لا أشعر بالمسافة. أنا أشعر بالوقت فقط. وهذا الزمن الذي يدبُّ بثقله على عروقي في غيابك يجعل الحياة ناقصةً حياة. لِذا لا أغلقُ الباب خلفكَ كلَّما غادرتَ كما في هذا الصباح لأنني أطبقه دائمًا على قلبي
وفي مطلع عامنا الثالث أرى أن نبرم اتفاقية تحالفٍ بيننا ضدَّ الحبِّ بعدما صار مكشوفًا، وأن نتصدَّى له في الزواريب حيث أغراكَ فانتزعتَ تلك القبلة المجنونة بين بناياتٍ سكنيةٍ نائمةٍ على طريقٍ بحريةٍ هائجةٍ نزولًا نحو البحر المائج
أن نتصدَّى له في الزواريب والكورنيش البحريِّ وشرفتنا الغسقية وسريرنا الزهريِّ حتى لا يتمكَّن منَّا. وهكذا نبدأ -كلَّما انتهى بنا سطرٌ- سطرًا جديدا
وفي مطلع عامنا الثالث سأجدِّدُ الحنين للرجل الذي ألهمني أجمل نصوصي على مدى عامَين. للرجل الذي يتجدَّد كلَّما بعثرتُهُ، كأغنيةٍ رائعةٍ لم تكتمل
للرجل الذي نبَّهتُهُ على مرمى فنجان قهوته في ذلك الصباح إلى أنَّ البحر يسرق لون عينيه ليُبدع منه سحر منظره، فأجابني: بل سرق لون فستانك القصير هذا.. فارتدَّت عيناي إلى طرف فستاني لأكتشف أنَّ لونه كامنٌ في قرارة المياه
ومع أنَّها ما أتعبتني يومًا معكَ الغواية
كم أتعبتني معك الغواية
للرجل الذي اختزل بعينيَّ كلَّ تاريخ الحنين وامتدادات السنين. للرجل الذي يكفيني عشقًا كونُه من نسل المجانين
وفي مطلع عامنا الثالث ماذا لو سألتُ “يوكاتيك”* أو “تشاك”* أو أيًّا يكن اسمها/اسمه* أن تجعل المطر يهمي في اتجاهٍ أبديٍّ من عينيكَ النخل على روحي؟ ألستُ من عشَّاق الغابات المطيرة
ماذا لو سألتُ “أكن كان” Ah cun can* أن يوقف هذه الحرب العبثية التي تهبُّ كلَّ ثلاث سنواتٍ في روحي وأهبَه في المقابل أن أكون “سيزيف” عينيكَ مدى الحياة؟
ماذا لو سألتُ إله الريح أن يوقف هبوبها؟
ماذا لو سألتُ الله وهو القادر على كلِّ شيء، وهو الذي خلق عينيكَ بكلِّ هذا السحر القاتل أن يجعل البحر أبديًّا في اشتعاله منهما؟ فلا أسبح لِما تبقَّى من الآتي إلَّا في عينيك البحر
إقرأ المزيد
ولعلِّي لستُ في حاجةٍ إلى تلك الطقوس كلِّها؛ فمن المؤكَّد أنَّ الله يعلم أنَّ خلودكَ في قلبي يكفله تعدُّد أمزجتك، الذي يجعلكَ في عينيَّ عصيًّا على الملل أو الشبع.. عصيًّا على الموت. فأين سأجدُ ذلك الرجل الذي يطهو أجملَ الشعر ويقفز أمامي بضحكة عينَي طفلٍ جذَلًا وهو ينتقي الخضار في السوق ويدخل معي المطبخ لنُعدَّ وجبتنا بين غمرةٍ وقبلةٍ ودمعةٍ من الحرب التي تحاصر أرواحنا
ولعلِّي في غنًى عن كلِّ تبريرٍ أو تفسير؛ فالله يعلم وأنت تعلم وأنا أعلم بعد عامَين من الجنون أنَّ حفلة الجنون لم تبتدئ بعد
—————————————————————————–
* تشاك: إله المطر في حضارة المايا. وفي مصدرٍ آخر إلهة المطر “يوكاتشيك”
* أكن كان Ah cun can : إله الحرب عند شعب المايا
* إشارة إلى اختلاف التسميات بين مصدر وآخر واختلاف عدد الحروف واللفظ، ووجود أكثر من اسم للإله الواحد في المصدر نفسه
* إشارة إلى أنَّ ميثولوجيا “المايا” معقَّدة، وقد اختلطت فيها ثلاثة أديان
* ملاحظة: المصادر إلكترونية وليست ورقية