بعدما توزّع الأبناء مهاجرين في أصقاع الأرض ،برى الشوق جسدها ، وأخذ منها الحنين كلّ مأخذ ،فأصيبت بهزال شديد ، فاندفع يوسف إلى معالجتها طويلاً ، ولكم كانت دهشته كبيرة عندما علم أنّ رحمها مصابة بذلك المرض العضال، وانّ الحنين إلى لقاء الأبناء الذين كانوا غارقين في جمع الاموال قاتل.
في المشفى ، وبعدما استنفد يوسف الباقي وحيداً إلى جنبها ، وقف الطبيب الجرّاّح يرقب تلك الصورة الشعاعيّة التي أجراها توّاً ، مع تلك الفحوصات المخبريّة ، بحزن ظاهر على قسمات وجهه ، لأنّ المعالجات التي استمرّت طويلاً فشلت . فأدام النظر إلى يوسف الذي كان يرنو إليه بشغف، ولاذ بصمت ثقيل.
– ما بك يا حكيم ؟ قل لقد شغلت بالي .(سأل يوسف)
– أصارحك الآن ، إنّ الرحم مصاب بمرض عضال ، كما تعلم، ولم تنفع معه المعالجات ،فلا بدّ من استئصاله فوراً.
– إنّه الرحم وكيف تقطعه ، فالله أوصى بصلة الرحم؟
– إذا كان الرحم مصاباً بورم خبيث ، ولا رجاء من شفائه ،فلا بدّ من ذلك ،وهذا الأمر كان لازماً من زمان، والقرار قرارك.فكّر مليّاً.
اغمض يوسف عينيه وراح يتذكّر الجفاء الحاصل من إخوته تجاه أمّهم ، امّي التي كانت تجترع مرارات الغياب ، وتحدو لكّل واحد منهم باسمه، تهدهده لو كان في المهد ، وتبكي كثيراً ثمّ نظر إلى الجرّاح بعيني صقر وقال:
– أنت محقّ ، هذا الأمر كان لازماً منذ قطع إخوتي جذور العاطفة مع أمي والأرض ، بل منذ تجلّدت عواطفهم في صقيع الغربة ، ومنذ انشغالهم بالدنيا وشهواتها، وتجاهلهم تلك الكتلة البشريّة المجبولة من عاطفة وحبّ وحنان وحنين امّي و … أقطعه الآن ولا تتردّد (قال ذلك، ومضى يسعى إلى إجراء هذه العمليّة مكرهاً)
لمّا عادوا زائرين لأيام ، ووقفوا أمام صورهم الموضوعة بعناية جنب سريرها ، رحت أخدّق إليهم تارة وإلى صورهم التي يعلم الله وحده عدد القبلات التي طُبعت عليها، وعدد المرّات التي ضمّتها امي إلى حنان صدرها ، والكمّ الهائل من التنهيدات والتأوهات التي أطلقتها ، قبل أن تسلم الروح ، على أمل اللقاء بهم أبناءً أحبّاء لا صوراً معلّقة على الجدران …