يونس شعبان الفنادي
هل تكفي سلاسةُ السردِ وتقانةُ الأسلوبِ؟(*)
==========================
نالت رواية المهندس الليبي الشاب محمد النعاس (خبزٌ على طاولة الخال ميلاد)(1) جائزة (البوكر) العالمية للرواية العربية لسنة 2022م ليحقق المشهد الليبي بها إنجازاً إبداعياً عربياً يؤكد أن مسيرة العطاء الأدبي الليبي لا تنطفيء جذوتها ولا تخبو قناديلها رغم ما تعانيه البلاد على الصعيد السياسي من انقسامات مناطقية بكل تداعياتها السلبية على الإنسان والوطن كافةً، خاصة في الجانب الأدبي والثقافي الذي تأثر بقلة وانحسار ومحدودية المناشط وعزوف كثير من المبدعين عن المشاركة فيها لأسباب متعددة، ولذلك فقد جاء فوز الرواية الليبية في هذا التوقيت الزمني الصعب والظروف السياسية المتردية ليزرع البهجة في قلوب الليبيين كافةً ويعيد بعض الأمل إلى نفوسهم في مستقبل مزدهر ومشرق لهذا الوطن
وعند التعاطي مع هذه الرواية المتوجة بالجائزة الأولى لهذا العام (خبزٌ على طاولة الخال ميلاد) على المشهد الأدبي الليبي النظر إليها من ثلاثة زوايا موضوعية وفنية أساسية وهي
أولاً: تعتبر أول رواية ليبية تحقق المرتبة الأولى وتنال جائزة البوكر العالمية للرواية العربية. ولذا فإن حدث الفوز في حد ذاته يعد تميزاً ليبياً واضحاً ومشهوداً في جنس الرواية الأدبية العربية، يستحق كل التهاني والتبريكات التي تتجاوز محدودية وخصوصية الموضوع، وشخصية المبدع والكاتب. وهو إنجاز ليبي يضاف إلى ما حققه الروائي “إبراهيم الكوني” بفوزه عام 2008 بجائزة الشيخ زايد للكتاب عن روايته (نداءٌ ما كان بعيداً)، وكذلك الروائي “هشام مطر” الفائز بجائزة “البولتزر” عن روايته (العودة) الصادرة عام 2016م، وجائزة “البولتزر” تعد أكبر الجوائز العالمية الأمريكية وتعادل جائزة البوكر البريطانية. وبالتالي فإن الاحتفاء برواية (خبزٌ على طاولة الخال ميلاد) والاهتمام بها بالدراسة والنقد الموضوعي الجاد، يعمل على اتساع انتشارها إعلامياً، وفي ذلك إسهام وتعريف بأجناس الأدب الليبي كافةً، وتوجيه القراء والمترجمين والنقاد ولفت إنظارهم إلى الإبداعات الليبية الأدبية
وأرى أن هذا الاحتفاء لا يتعارض واختلافنا مع بعض ما ورد بالعمل ولا يتوافق كلياً مع قناعاتنا وأفكارنا، على غرار فوز الروائي العربي الكبير نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب سنة 1988م، رغم تحفظاتنا على بعض مضامين رواياته وموضوعاتها المحلية، وأساليبه الوصفية الجسدية، ولغته الحوارية المصراوية، ولكن ذلك لا يمنع بأن فوزه العالمي مثّل إرتقاءً بسمعة الرواية العربية إلى مستوى متقدم نالت به المزيد من الاهتمام والترجمة وتسليط الأضواء عليها
ثانياً: من الناحية الفنية والأسلوبية فإن رواية (خبزٌ على طاولة الخال ميلاد) تستجيب كثيراً لتقنيات ولغة الكتابة الروائية الحديثة من خلال انفتاحها على عدة فضاءات فرعية زمنية ومكانية وسيرية، بنَفَسٍ سردي يملك مساحة تعبيرية طويلة، تتعالق فيها أجناس أدبية عديدة، كما تتعدد شخصياتها وأصواتها وحواراتها ومونولوجها الداخلي، وثراء تقنية الاسترجاع الماضوي، والوصف التفصيلي الخارجي للأمكنة والفضاءات الأخرى، والداخلي للمشاعر والأحاسيس الوجدانية المتفاعلة بكل تبايناتها في أعماق ذوات الشخصيات المتحركة عبر مشاهد الفضاء الروائي بكل دقة وتوظيف سردي، وهذا يؤكد توفر المهارة في الكتابة لدى المؤلف الشاب
ثالثاً: أما مضمون الرواية ومفردات لغتها التعبيرية فهو لازال يثير جدلاً كبيراً، وفق الاحتكام لمعايير النقد المعاصر للأجناس الإبداعية وتصنيفها بحسب انتمائها إلى (الأدب) و(قلة الأدب) بصرف النظر عن قيمتها الإبداعية الفنية. فبعض الكتابات الأدبية بأجناسها المختلفة تنحاز في أسلوبها وتوظيف مفرداتها لتعرية الواقع الاجتماعي برمته، ونزع ورقة التوت عن كل عوراته ومفاسده وألفاظه وعباراته وتصرفاته، بينما هناك من يؤمن بأن رسالة وغاية العمل الأدبي تتمثل أساساً في كونه يوطِّن قيمةً أخلاقيةً، فكرةً ولغةً وأسلوبَ حياة، تسمو بالمتلقي ولا تهوي به إلى عوالم الرذيلة، ولازال هذا الجدال والنقاش حول وظيفة الآداب كافة ودورها الأساسي مستمراً، رغم تأكيد النقاد والدارسين على أن (الروايةَ عملٌ فني تخييلي لا يقاس بالمعايير الأخلاقية مهما تكن قيمتها في عالم الاجتماع والسياسة. وإنما يقاس بمعايير فنية، بمعايير المحاكاة الفنية للواقعة التي يطرحها الروائي، بمقدار ما في العالم الروائي المتخيل من حيوية وتماسك).(2)
تاريخُ الرواية الليبية
يرجع بعضُ البحاث أول ظهور للرواية الليبية إلى إصدار الأديب الراحل حسين ظافر بن موسى روايته (مبروكة) سنة 1937م بمهجره في مدينة دمشق بسوريا، بينما الشائع لدى آخرين أن رواية (اعترافاتُ إنسان) للأديب الراحل محمد فريد سيالة هي الرواية الليبية الأولى وقد صدرت سنة 1961م مطبوعة بمدينة الإسكندرية(3)
مشاركةُ الرواية الليبية في جائزة البوكر العالمية
وصل عدد مشاركات الرواية الليبية في الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) منذ انطلاقها سنة 2008م إلى خمسة مشاركات، منها اثنتان ذكورية وثلاثة نسائية، حيث بدأت في الدورة الثانية سنة 2009م برواية (الورم)(4) للروائي إبراهيم الكوني، ثم في الدورة الرابعة سنة 2011م برواية (نساءُ الريح)(5) للروائية رزان نعيم المغربي، ثم في الدورة العاشرة سنة 2017م برواية (زرايبُ العبيد)(6) للروائية نجوى بن شتوان، ثم في الدورة الثانية عشرة سنة 2019م برواية (حربُ الغزالة)(7) للروائية عائشة ثبوت إبراهيم، وفي الدورة الخامسة عشرة سنة 2022م رواية (خبزٌ على طاولةِ الخالِ ميلاد) للروائي محمد النعاس والذي يعد أصغر روائي عربي يفوز بهذه الجائزة حتى الآن، وقبله حققت رواية (زرايبُ العبيد) مرتبة الوصول للقائمة القصيرة، بينما اقتصرت الروايات الأخرى على تصنيفها ضمن القائمة الطويلة
فكرة وملخص رواية (خبزٌ على طاولة الخال ميلاد)
(خبزٌ على طاولة الخال ميلاد) لا تملك أية فكرة أيديولوجية معينة أو رسالة محددة تسعى لبثها في وجدان وعقل القاريء، بل جاء موضوعها تقليدياً بلا أي تفرد أو تميز أو تجديد، فهو عبارة عن سردٍ لمحطاتٍ من سيرة شخصية تكاد تظهر في أي بلد عربي أو أجنبي، وعبر فضاءات متنوعة تتنقل بمشاهدها بين عدة أماكن أبرزها بهذه الرواية حي الظهرة وتاجوراء بئر حسين وميدان الكتدرائية في طرابلس وتحديداً داخل الكوشة الأرستقراطيّة (باستشيريا ارتيجانالي) وحتى تحولها إلى كوشة شعبية، و”البراكة” وما فيها من سيجار وحشيش وخمر وأفلام إباحية مهربة وعاهرات، و”منزل العائلة” وما يحتويه من تناقضات تتمثل في نعومة العلاقة الأنثوية للبطل (ميلاد) مع أخواته مقابل خشونة صراعاته الدائمة مع والده الذي ظل رنين درسه التعليمي (ستغرق إن خفتَ الغرق) حاضراً يطرق مسمعه على الدوام، وقسوة التجربة الجسدية العنيفة والنفسية المؤلمة داخل “أحد معسكرات التجنيد”، ووفاة رفيقه “منير” بجانبه ومعاناته التصادمية فكرياً وسلوكياً مع الآمر العسكري “المادّونا”، ثم في “دار غزالة” بحزيرة جربة ومدينة “تستور” والعاصمة بتونس وغيرها
- حديث الصفحات في كتاب “وطنٌ اسمه فيروز”
- قراءة في المجموعة القصصية (بكاء الشجر) للكاتبة أ/ إيمان أحمد يوسف يوسف
- ابعاد رواية “المسخ” لفرانز كافكا
- رواية النباتية (The Vegetarian) – للكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ
- الطاقة الكلمية واهميتها في تغذية الصورة الذهنية في الشعر الشعبي اللبناني سليمان قاسم انموذجاً
أما شخصيات (خبزٌ على طاولة الخال ميلاد) الرئيسية الأبرز فهي الراوي “ميلاد” إضافة إلى والده وأخواته الأربعة، وزوجته “زينب” وابن عمه “العبسي” و”المادّونا” واليهودي الليبي “بنيامين” وابنته “ساره”، وغيرهم ممن تطلب ظهورهم بالفضاء الروائي وساحة الأحداث والحكايات التي وثقت الرواية تفاصيلها في تلك الأمكنة، سواء كانوا ليبيين أو إيطاليين أو عرب من تونس والجزائر ومصر(خميّس، الباهي، مسعود، سعيد). وهذه كلها توزعت على فصول الرواية الستة التي ظهرت بالعناوين التالية: المخبز، المعسكر، دار غزالة، بيت العائلة، البراكة، المطبخ
وقد اختارت رواية (خبزٌ على طاولة الخال ميلاد) منذ عتبتها الأولى أن تتكيء على الموروث الشعبي حين استمدت بعضاً من تلميحات أحد الأمثال الشعبية الليبية الذي يقول (عيلة وخالها ميلاد) ليرمز بشكل تهكمي ساخر إلى المستوى الأخلاقي المتدني للعائلة بجميع أفرادها وأقاربها وإن اقتصر على ذكر الخال صراحةً دون غيره، كما ظهرت الأمثال في عتبة فصول الرواية (البنات زريعة إبليس) و(اضرب القطوس تتربى العروس) و(تعيش يوم ديك ولا عشرة دجاجة) و(الراجل ما يعيبه شيء) وغيرها، لتكون استهلالات تنسج سرداً ينساب بلغة بسيطة لا تتلبس الغموض والغرائبية أو الطلاسم الغيبية والأسطورية، وفي نفس الوقت لا تكتنز بلاغة مكثفة عميقة، بل اقتربت كثيراً من التقريرية أو السطحية المباشرة، وكل هذا منحها خاصية اللغة المحكية، السلسة بتفاصيلها وتدرج سلم تشويقها، وجاذبية أحداثها المتتابعة التي تتماسك بكل اقتدار، وتتفتح على تعالقات وارتباطات متعددة كالأغنية والسينما والشعر وكأنها بانوراما تحركها شخصيات شعبية بسيطة تنتمي إلى فضائها الروائي ومجتمعها وأحداثها بكل جدارة، وتعبر بتقنية الراوي أو السارد وهو الظل الفني أو الأنا الثانية للكاتب التي اعتمدها المؤلف الشاب أداةً فنيةً لنقل رسالته الأدبية التي تنحاز إلى الإمتاع المطلق، بسرد حكايات دون أي محتوى رمزي سياسي أو أيديولوجي لها، وإن عرّجت أحياناً على بعض أحداث السياسة الليبية في سياق أحداثها، ولكنها لا تسهب حولها أو تهدر وقتاً طويلاً بها
أما زمن الرواية فنكتشف من خلال الراوي أنه يرجع إلى ما قبل سنة 2011م في ليبيا، حين يقول على لسان ميلاد بطل الرواية (.. ليس هناك الكثير لمشاهدته مع جهاز البثّ، أقلّب القنوات العشرين التي في متناولي، حتّى أجد ما يمكنني مشاهدته، مباراة كرة قدم مُعادة، مسلسلاً سوريًّا أو أتابع أخبار العالم. تأتي أيّام ولا أشاهد إلّا قناة الجماهيريّة. أتابع فيها مؤتمرًا أو خطابًا للأخ القائد…) وهذه عينة من بعض فقرات برامج التلفزيون الليبي قبل أحداث سنة 2011م
ومن بين الخصائص الفنية المميزة للرواية استحداث الكاتب تقنية الإمساك بالقاريء من خلال خطاب الراوي الذي يوجهه إليه مباشرة عند صدارة وبداية كل مقطع، ليربطه أولاً بما سبق، وثانياً ليعلن ما سيسرده عليه لاحقاً. وهذا بلا شك أسلوب يزيد فاعلية متابعة الرواية ويعزز العلاقة مع القاريء في إحماء رغبته وزيادة تشويقه لمواصلة التهام النصِّ والغوص في تفاصيله
واقعية الرواية وأسلوبها الفني
ليست المرة الأولى التي يثير فيها موضوع “الخبز” زوبعةً في المشهد الروائي العربي. فمنذ عقود طويلة وتحديداً سنة 1982م حين نشر الكاتب المغربي محمد شكري روايته (الخبزُ الحافي) تعرض للكثير من النقد والهجوم الشرس على ما ورد فيها من وصفٍ وتصوير للمجون وفضاءات الدعارة والخمر والسرقة والقمار وكل أنماط الرذائل والسلوكيات المشينة، وحشوها بالمفردات النابية والألفاظ العارية والتمرد على سلطة الوالد والتخلص من رابطة العائلة، مما جعل أحد الكُتَّاب ينزعج من هذه الدعوة الانفكاكية والتعبيرات البذيئة ويصف المؤلف ب”الكاتب الرجيم”(9). ولذلك فإن ما تتعرض له رواية (خبزٌ على طاولة الخال ميلاد) من انتقادات ليس بجديد على المشهد الروائي والنقدي، حتى إن كان هذا الدور قد تجاوز حالياً النقاد المختصين وصار كل المدونين والمتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي يسهمون في ذلك بأراءهم المختلفة
فيا تُرى هل الخبز يملك كل تلك القدرة على الإثارة وتفجير العديد من القضايا واختراق المشاعر واستكشافها ونشرها في سرديات تجد تفاعلاً إيجابياً وسلبياً من النقاد والقراء والمتابعين المدونين على حد سواء؟
إن أسلوب رواية (خبزٌ على طاولة الخال ميلاد) جعل شخصياتها تبدو في امتزاج وانصهار حد التطابق التام، أو التماهي المطلق بين الواقعي الحقيقي والافتراضي التخيلي، لدرجة أن القاريء لا يستطيع أن يبعد شخصية الكاتب “محمد النعاس” الحقيقية عن صورة البطل التخيلي والراوي “ميلاد الأسطى” في مشاهد وأحداث هذه السيرة الروائية، ولا شك بأن هذه الخاصية تمنح أسلوبية الرواية ارتقاءً عالياً في سلم براعة استخدام التقنية اللغوية، مع التأكيد مجدداً على بساطة مفرداتها، إضافةً إلى أن استحضار أسماء شوارع وأمكنة بعينها، وأسماء مطربين “أحمد فكرون، فيروز، بوب مارلي، الهادي الجويني، وغيرهم” وممثلين مثل “أنتوني كوين” وشريط “زوربا” وشريطي “الأجرب” و”القرية”، وكلمات أغاني متنوعة وتوطينها في النص الروائي يؤكد تعالق هذا النص مع غيره من الأجناس الفنية كالأغنية والسينما، وعمله على تقليص الهوة بين الواقعي والتخيلي في ذهن القاريء ودفعه لتصديق ما تمر عليه عيناه وكأنه أمرٌ حقيقي واقع فعلياً يشاهد أو يتابع في زمن الرواية
وعند استخدام الكاتب تقنيات الاسترجاع والتداخل الخيالي الواقعي في روايته لم يجعلها جامدة بحشوها في النصّ وسردها مجردة، بل أسقطها على الكثير من الأحداث والمواقف للمقارنة بين أزمنتها وشخصياتها وربطها مع حاضره، مثل تعرض بطل الرواية “ميلاد” للعلاقة ” بين “جاك” و”روز” في فيلم “تاتنيك” ومقارنتها مع علاقة ارتباطه بزوجته “زينب” من حيث أنهما على ظهر سفينة واحدة، والمقارنة بين سيارته “البيجو 404” الشعبية المتواضعة موديل 69م مع سيارة “المدام مريم” الفارهة الفخمة “البي ام”، ثم استفهامه المقارن حول مدى مشروعية خيانة زوجته “زينب” مع مديرها بالشركة بخيانته هو نفسه لزوجته مع “المدام” في منزلها، وأيضاً مقارنة عودة “المدام” من أوروبا للعيش في طرابلس بعودته شخصياً من “الظهرة” بقلب مدينة طرابلس للعيش في قريته البدوية ومعاناة التكيف مع الحياة فيها فكرياً وأسلوبياً
لقد ظلت رواية (خبزٌ على طاولة الخال ميلاد) تواصل تسجيل سرد أحداثها بتفاعلاتها المشوشة فكرياً منذ محاولة بطل الرواية “ميلاد” الانتحار، هروباً من واقعه الحقيقي الذي يشعره بالانهزام أمام معايير الرجولة، وفقدانه الإحساس بهوية الإنتماء الحقيقي إلى الجنس الذكوري أو أهمية وجوده بالوسط الاجتماعي، وكذلك نظرة نساء القرية الدونية لرجولته حين يسمعهن يرددن (إنه ميلاد .. لا خجل منه) وحتى غليان ذاته المضطربة الذي ظهر مبكراً جداً، وتحديداً منذ مواجهته مع العبسي حول “هنادي” ابنة اخته “صباح” حيث سرعان ما تحولت تلك المواجهة من حوار كلامي ونقاش شفهي صاخب إلى تفاعل فكري مادي، متبوعاً بقرار تنفيذي (ذهبتُ بعد تخرّجي من «أكادیمیّة » العبسي إلى بیت العائلة، حتّى أُنهي المسألة وأستعید هيبتي، استدعیتُ الفتاة وأنّبتها على ما تفعله، أخبرتها بأنّ عليها ارتداء الجبّة من الآن فلاحقًا وإلّا عليها أن تبقى في المنزل.)(10، واستمر ضخ العنف والتخلف في ثنايا عقلية “ميلاد” البائسة التي يعجنها ويشكلها “العبسي” بتحريضه على ضرب زوجته مردداً (النساء يرعبهن الحزام ؟؟؟ الحزام هو سلاح الرجل القاهر) ثم وصيته الأخيرة التي قدمها له في آخر لقاء جمعهما في “البراكة” مستحضراً المثل الشعبي مجدداً (اضرب القطوس تخاف العروس). كل تلك التعبئة الفكرية المضادة لكيان الأنثى الإنساني والمنحازة للذكورة، أفرزت نتائجها جريمة المشهد الختامي الذي نفذه بطل الرواية “ميلاد” بقتله حبيبته وزوجته “زينب” ومن ثم تغييها من الوسط الذي اختاره لها طواعيةً في البداية وهو ما يعكس اضطراباً فكرياً ونفسياً واضحاً
إن واقعية الرواية ومضمونها تمثلت في حشدها العديد من الأحداث والوقائع الإجتماعية وتوظيفها لكتابة نصٍّ يملك جاذبية السرد بلغة بسيطة، وهي وإن ظهرت مفرداتها عارية وخالية من الصور البلاغية الهائلة، فقد جاءت مطعمة بتعدد أصوات شخصياتها “البوليفونية” التي أضفت عليها ثراءً وتنوعاً يكسر الملل والرتابة الآحادية في النصّ الروائي. كما وظّف الكاتب تقنية الفلاش باك أو الاسترجاع بشكل لا يفقد السرد تماسكه وارتباطه مع الحدث الذي يتناوله أو ينقله أو يصفه، خاصة أثناء الحواريات الثنائية التي اتسمت أحياناً بالتداخل الملحوظ بين مفردات اللهجة العامية والفصحى، وهو ما حاول به المؤلف تأكيد واقعية الأحداث واستنساخها أو استقطاعها برمتها من واقعها الحقيقي على حساب الواقع الموضوعي المتخيل في الرواية وليس المعاش حقيقةً، رغم أن (لغة الحوار تعبر عن لسان الحال لا المقال … إن الواقع الفني يختلف عن الواقع الخارجي الحقيقي. فهو قادر على امتصاص ما في الواقع الخارجي وإعادة صوغه مع المحافظة على جوهره وطبيعته.)(11)
لا شك أن عملاً يكتظ بكل هذه العناصر الفنية في كتابته، دون أن تظهر متكلفة أو ثقيلة على السرد، حيث استطاع الكاتب بناءها وصياغتها وربطها بشكل محكم لتقديم وجبة دسمة من القص والإمتاع، لهي جديرة فعلاً بالاهتمام والثناء على هذا الجهد الإبداعي الذي بذل فيها والسعي لمزيد الغوص في تفاصيل أحداثها ومشاهدها
موضوعية وغايات الأدب
يبيّن الناقد البلغاري الفرنسي “تزفيتان تودوروف” في كتابه “الأدبُ في خطر” غايات الأدب بقوله (يستطيع الأدبُ أن يفعل الكثير. ويمكنه أن يمد لنا يد العون عندما نكون محبطين بعمق، ويقودنا نحو الكائنات الإنسانية الأخرى التي تحيط بنا، وأن يجعلنا نفهم على نحو أفضل العالم، ويساعدنا على العيش. وليس هذا لأنه يمثل تقنية معالجة الروح قبل كل شيء، فهو يستطيع أيضاً، في هذه الأثناء، أن يحول كل واحد منا في داخله. ولذا، فإن للأدب دوراً جوهرياً يقوم به..)(12)
ويضيف في موضع آخر (لو سألتُ نفسي اليوم لماذا أحبُّ الأدب؟ فالجواب الذي يتبادر عفوياً إلى ذهني هو: لأنه يعينني على أن أحيا) وبهذا الرد الواضح الصريح والحاسم المحدد يعترف “تزفيتان تودوروف” بغاية وهدف النص الأدبي ويحددها بدقة. وهو ردٌّ يُفصح مباشرةً عن رسالة الأدب الأساسية وهي الإمتاع وتوطين البهجة والمسرة في المتلقي من أجل مساعدته على فهم الحياة بشكل أفضل، والاستزادة من مخزونه وعبقه الجمالي لإثراء إسهاماته وفاعليته الإنسانية في الحياة. تليه لاحقاً الرسائل والغايات المتعددة الأخرى كالتأريخية والتربوية الأخلاقية والتوعوية الدينية والسياسية وغيرها
ولكن المناهج النقدية التقليدية المنغلقة ظلت تهيمن على التوجيه الضيق لوظائف الأدب والعمل على قراءته وفق الأسس الأخلاقية والتربوية حد التقديس، بل وتهدد المبتعدين عن ذاك التوجه، وهو ما يجعل الكثير من الأعمال الإبداعية تعامل وفق هذا المنظور، ومن بينها رواية (خبزٌ على طاولةِ الخال ميلاد) التي وإن بقيت وفيةً للخبز في دلالاته النفعية الوظيفية والموضوعية الخيرية انطلاقاً من مكوناته وعناصره الأربعة (الدقيق والماء والملح والخميرة) وحتى في تعدد أشكاله الجمالية المختلفة التي تتطور وتتنوع زمنياً ومكانياً في ليبيا من “خبزة الحوش” و”المحورة والتنور” و”البريوش الطرابلسي”، إلى “الباقيت” الفرنسي، و”الشيباتا” الإيطالي، و”رغيف الريف” الإنجليزي، و”الفوكاشيا” الإيطالية، و”البيقلز” النيويوركي، وما يحمله هذا التكوين والتعدد والتنوع المتباين من إشارات أو تلميحات إلى تطور وتنوع الحياة ذاتها، بأوجهها المختلفة وشرائحها وطبقاتها الاجتماعية المتفاوتة والمتعددة، وارتفاع مستوى الذائقة والمهارة والإتقان لصناعة الخبز، فإن التركيز ظل مسلطاً على القيمة الأخلاقية في مضمون النص الأدبي وأدوات التعبير اللغوية الوصفية والفنية بجميع رمزياتها، دون غيرها من الجماليات
وحول رفض وقبول رواية السيرة والسيرة الذاتية التي تستقي من تجارب أخرى على غرار (خبزٌ على طاولة الخال ميلاد) يقول الأديب والروائي الجزائري “واسيني الأعرج” بأن (رفضها لا يكلف شيئاً، وقبولها بلا أسئلة أيضاً، يضعنا ويضع النقد العربي أمام حيرة كبيرة. يحتاج النقد قبل أن يكون آليات متكررة، أن ينتقل الى فعل الابداع الذي يفهم النص كما يتبدى لا كما يريده)(13) وتأسيساً على هذا المنحى فإن نقد رواية (خبزٌ على طاولة الخال ميلاد) وهي المعنية كغيرها بهذه الإشارات المهمة، يجرنا إلى طرح بعض الأسئلة والاستفهامات حولها، وهو ما يعد تحريكاً للعقل وتأملاً جمالياً لذات الإنسان المبدعة ووإمكانياته التعبيرية السردية، وعلاقتها برؤاه الفكرية والإبداعية وكذلك تعاملاته وصلاته بالآخرين والعالم كافةً
استفهاماتٌ ختامية
بعد الانتهاء من قراءة رواية (خبزٌ على طاولة الخال ميلاد) يمكن للقاريء أن يتبسم ويستريح من عناء القراءة وشدة التركيز، ثم يضعها جانباً ويطلق في ذهنه عدة أسئلة حولها بكل استغراب مثل: هل فعلاً وطّنت هذه الرواية بهجةً وإمتاعاً في القاريء؟ وهل فعلاً شخصياتها “ميلاد” و”العبسي” و”زينب” و”المادونا” و”المدام” يمثلون كل المجتمع الليبي، أم أنهم مجرد شريحة جزئية منه، ومشهد من مشاهده السلبية البائسة التي تتوارى هامشيتها في الغالب بعيداً، أمام مشاهد أخرى أكثر بهجة ونقاء وإيجابية؟ ثم طالما أن الرواية نفسها بلا فكرة جديدة أو هدف محدد فكيف استطاعت أن تتفوق على غيرها من الروايات المشاركة وتنال الجائزة الأولى؟
ولا يتوقف طوفان الأسئلة والاستفهامات المتوالدة حتى يطال لجنة التحكيم بالجائزة مثل: هل حقاً انتصرت لجنة تحكيم جائزة البوكر إلى الكتابة الجيدة موضوعياً وفيناً والهادفة لإمتاع القاريء؟ وما هي معايير الاختيار والتقييم التي وضعتها هذه اللجنة من حيث الموضوع والأدوات الفنية؟ وهنا وبكل عناية واهتمام لابد من تأمل قول الأديب والروائي الليبي محمد المغبوب بأن (الجوائز العالمية لها شرط الفوز بما يخدم توجهات أصحاب الجوائز، فحتى الجائزة الحكومية تمنح لصاحب العمل الذي يخدم الحكومة ولو من الباب الوطني، فلن تمنح الدولة جائزة لعمل ينتقدها او يعارضها. لهذا فالجوائز الأدبية لا تعني جودة العمل بقدر قدرته على ملائمة وضع سائد خارج النقد والشروط)
وتعزيزاً لذلك أستذكر العبارة الاتهامية للروائي الليبي إبراهيم الكوني في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورة اليوبيل الذهبي سنة 2019م حين قال (إنّ الذي أفسد الرواية العربية هم النقاد والجوائز) فهل يا تُرى كان صائباً فيما يتعلق بهذه الجائزة؟ وبالتالي هل يعقل أن لجنة التحكيم المتكونة من مختصين وأكاديميين لهم باع طويل في النقد الروائي لم ينتبه أحد منهم لقاموس الشتائم القبيحة والمفردات الصريحة البذيئة ووصف المشاهد المثيرة للحواس الجنسية المحشوة بالرواية الفائزة؟
ولمحاولة الرد على السؤال الأخير أضع إجابتين محتملتبن، أولهما أن تكون لجنة التحكيم قد انتبهــت فعلاً لكل ذلك، وهــذا من البديهي طالما أنها قرأت الرواية على الأقل مرة واحدة، ولكنها مع ذلك لم تشر إلى تلك الاختلالات اللغوية والوصفية النعتية، أو أنها غضت الطرف عنها واعتبرتها تتماشى مع معايير الجائزة وتستجيب لشروطها الموضوعية والفنية. والاحتمال الثاني يجعلنا نظن أن اللجنة لم تقرأ النص بتاتاً نتيجة الاستعجال أو غيره من الأسباب، وهذا بلا شك أمر أخطر من الاحتمال الأول لأنه يعكس قصوراً بيّنا في المسؤوليات الأدبية
ثم يظهر السؤال المهم: هل حقاً تكفي سلاسة السرد وتقانة الأسلوب في زرع البهجة وزيادة فهم الحياة وتوطين المتعة كما أوردها “تودوروف” عند تناوله وظائف الأدب، بصرف النظر على مضمون النص الأدبي عامة والروائي على وجه الخصوص، وهل ذلك وحده يضمن نيل الجوائز، ؟
إن ما تسببه لجان الجوائز من ترديات وتداعيات تزيد الإرباكات والمستويات السلبية التي تعانيها الرواية العربية وحالة الإنهاك المتعمد التي تواجهها بغرض تفريغها من مضامينها الإنسانية الإيجابية النقية وجماليتها الإبداعية الفنية، وإغراقها بتناول وتجسيد مواضيع هامشية في الحياة وليس جوهرها الحقيقي، بقصد الإثارة الفارغة الخاطفة التي سرعان ما ينطفيء بريقها ويخفت ضجيجها، على حساب الإبداع الحقيقي الذي يظل حضوره راسخاً ومستوطناً في الذاكرة ومهيمناً على الوجدان العاطفي والفكر الإنساني
ولكن في الختام لا نملك إلاّ التهنئة لرواية (خبزٌ على طاولة الخال ميلاد) على نيلها رضى واستحسان لجنة التحكيم، وفوزها بالجائزة الأولى في مسابقة البوكر العربية لسنة 2022م، على أمل أن تنال تقدير واستحسان واحترام القراء وتستوطن وجدانهم وعقولهم، وذلك هو أعظم جائزة لها، وكذلك كل التبريكات والدعوات للروائي الشاب “محمد النعاس” بالتوفيق في اختيار مواضيع أعماله القادمة وتطوير أدواته السردية الفنية التي تشي بمهارة فنية رائعة، مع تذكيرنا له مجدداً بأن “سلاسة السرد وتقانة الأسلوب” وحدهما لا تكفيان لتقديم عمل روائي جيد ومحترم
الهوامش
(*) نشرت هذه المقالة بمجلة (إبداع) الأدبية الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، عدد رقم 36، شهر أغسطس 2022م
(1) خبز على طاولة الخال ميلاد، محمد النعاس، رواية، دار مسكيلياني للنشر، تونس، الطبعة الأولى، سنة 2020م
(2) دراسات في الرواية الليبية، سمر روحي الفيصلي، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، 1983م، ص 186-187
(3) انظر: معجم المؤلفات الليبية المطبوعة في الأدب الحديث، الصيد أبوديب، مجلس الثقافة العام، سرت، ليبيا، ط 1، 2006م، ص 147
(4) الورم، إبراهيم الكوني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2008م
(5) نساء الريح، رزان نعيم المغربي، دار ثقافة للنشر والتوزيع، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، 2010م
(6) زرايب العبيد، نجوى بن شتوان، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2016م
(7) حرب الغزالة، عائشة إبراهيم، مكتبة طرابلس العلمية العالمية، طرابلس، الطبعة الأولى، 2019م
(😎 خبز على طاولة الخال ميلاد، مرجع سبق ذكره، ص7
(9) انظر: مجلة الناقد، دار رياض الريس، لندن، العدد الثالث عشر يوليو “تموز” 1989، السنة الثانية، ص 66-69
(10) خبز على طاولة الخال ميلاد، مصدر سبق ذكره، ص 154
(11) دراسات في الرواية الليبية، مرجع سبق ذكره، ص 194
(12) الأدب في خطر، تودوروف، ت. منذر عياشي، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 2011م، ص 47
(13) انظر: واسيني الأعرج، النقد الروائي في الأفق الإبداعية، القدس العربي، بتاريخ 12 يوليو 2016م