“باسم الجمال… أدعو إلى التوبة”
افتتاحية العدد بقلم رئيسة التحرير
الأديبة إخلاص فرنسيس
نحن أناس نحبّ السرد، شغوفين بأحداثه وأشخاصه الداخلين في دواخلنا البعيدة، منذ المهد ونحن نسمع الحكايات، ونعيشها، ونرى أنفسنا فيها ضحايا الوهم والفجيعة.
قلّة من أدركتهم الكتابة، ليسطّروا حكاياتهم شعرًا أو نثرًا، قصة أو رواية، وقلّة القلّة تخرّجنا من معاطفهم، ودخلنا فيها، خارجين من جلابيب التاريخ المليء بالدم المسفوك، وهناك من اختار أن يعيش في قصص الآخرين، يقرأ أعمالهم، يعيد ترتيب الأفكار على حسب رؤياه ومزاجه، وهناك من لا يكتفي بما كتبه الآخرون، إنما بعينه الثاقبة ورؤاه اللاحبة يكشف المستور، ويكسر المألوف والمتداول والنمطي والبليد، ليخرج بفكرة جديدة يسجّلها للأجيال، فالإبداع في النهاية هو نسر في سماء الحرّية، لا بوم ينعق في الخراب.
ونحن في صراع مع الآلة، وبين الإبداع والاستلهام من الموروث، أو الاستعانة بالآلة، يغار الحبر، تتكسّر أجنحة القلم، من يستطيع إخماد هذا الحريق الذي يرقص بين الأنامل، هذا القلم القديم الجديد، المدمّر للأصنام، والكاشف للإبداع، ومساوئ الكون، وخفايا الحبّ الطافح بالعذاب والعذوبة. من منّا لم يذب أمام قصيدة كتبها شاعر بالدموع والشوق، أو تماهى مع قصة وجد فيها سكينة في الليالي المكفهّرة، ومن منّا لم يتماهَ مع تنهّد الحبر، وتبدّد الحلم، في زمن العلم الجاهل بالروح؟
هل بهت وهج القلم ما بين سهولة الآلة ومرارة اليأس والحاجة، أم تاه صوته في هذا الضجيج، ومرارة الواقع، وغرق في طوفان الخذلان.
نحن مكبّلون، نركض من منفى لمنفى، لأنّ أرواحنا تريد وطنًا بحجم القلب. مطرقة عنيفة لا تكلّ، ولا تملّ، تهشّم الجمال، وتهمّش الروح.
متى نؤمن أنّ المبدع هو من أضاء ظلمة السواد الأعظم، واليوم، وقد مرّ ما مرّ من أزمان على الحلم الجميل الذي ما زال يرفرف في الأعماق، مضى موسم آخر من مواسم الأرض، صيف ملتهب، وبرز الشعاع الأصفر في السماء يؤذن بالخريف، يعكس مكنونات الحزن الشفيف على الطبيعة، معلنة انسحاب صيف دام، مطبقاً على رفات العباد، حيث توارى الجمال خلف نيران خلّفها أعداء الحياة، تتساقط الوجوه أمامنا كأوراق التراجيديا، تدهسنا، وتسخر منّا يد القضاء، هل نفكّ لغز الحبر، ونشرع القلم في وجه ما دمّرته الأضغان، وعندما تكدّرنا يد الزمن العاصفة، نكفّن بالحروف، ونعلّق القلوب والبصائر في هياكل الإنسانية، لتضيف إلى قوى الوجود قوة، مقدّمين الخبز والورد، في مهمّة سامية، حيث لا شيء يجب أن يكون سوى الحبّ، فيما يلتزم الآخرون بالموات، يبقى الصوت الأعلى سوناتا الخريف التي تدعو إلى صحو جديد.
في كفّي قبلة مشاغبة، وعلى رأسي طائر مجنون، وفي قلبي طقوس الكتابة التي يقرؤها العابرون في ظلال العالم، نتحرّك، نكتب بلسمًا لنكون، في بقعة منفردة، حيث يُبرئ القلم الألم.
لم ينته زمن الحرب، ولن ينتهي، لكنّنا قادرون أن ننصب خيمة الحبّ في أقصى الكتابة، لأنّ الكتابة حبّ عظيم، وحياة عظيمة.
سنظلّ على عقيدة سعدالله ونّوس محكومين بالأمل حتى لو كان سرابًا..
تذكرت ما قاله لي أحدهم يومًا: “أنا اخترت بنفسي، وأستمتع باختياراتي. فإذا كانت الطيور والسناجب ما زالت تلهمك، وإذا كنت قادرة على الحب رغم كل شيء، فهنيئًا لك نعمة النسيان… بل هنيئًا لك الموت عشقًا.”
غرفة 19 – العدد الثامن عشر
الجمال ليس ترفًا ولا وهمًا، بل هو القوة التي تعيد للوجود معناه في مواجهة الخراب. نلمحه في جناح نورسٍ يشقّ السماء، في كائنٍ صغير يثق بالريح، في صمتٍ يتحول إلى نداء داخلي. إنه ذاك الحضور الخفي الذي يوقظنا ويهمس لنا: “ما دام فيك حبّ، فما زلت قادرًا على النجاة.”
وهكذا، فإن الإبداع والجمال ليسا زينة للحياة، بل هما طريقتنا في البقاء، ووسيلتنا في تحويل الفقد إلى معنى، والتيه إلى طريق. ومن هنا تنطلق صفحات هذا العدد، باحثة في أسرار الخلق، في دهشة الفن، وفي يقين أن الجمال هو أعمق أشكال التوبة، وأصفى أبواب الحرية.
في مَعابِدِ الطَّبِيعَةِ
نَدِيَّةٌ أَجْسادُ الأَطْفالِ
مَسْجَياتٌ
عَلى أَشْواكِ العَبَثِيَّةِ
في العُصورِ المُفْحَمَةِ
يَخْتَبِرُ الجَلِيدُ سَطْوَتَهُ
عَلى أَكْتافِهِمُ العارِيَةِ
مضوا
أَوَّلَ اللَّيْلِ،
سِرْبٌ مِنَ الأَرْواحِ
يَصْعَدونَ
كَمَا نَهْرٌ كَسُولٌ
وِسادَةٌ مِنْ هَوَاءٍ تَتَّكِئُ إِلَيْها الرُّؤوسُ
مَلائِكَةٌ يُرَبّونَ الضَّبابَ
لِئَلّا يَخْتَرِقَها أيلول
اخلاص فرنسيس