“ينسى الناس كيف يطيرون، لأنهم يفقدون المرح والبراءة والجرأة”
“جيمس ماثيوز باري”
لا زال تعريف الشعر مستعصيا فهو ليس اللغة ولا الفكرة، لكنه أثر الكلمات في اللغة، وما قبض عليه من أثر اللحظة او الفكرة في الكلمات، حتى الشاعر لا يستطيع ان يُعرِّف الشعر وماهيته رغم أن ماهيته تدل عليه، وعلى الرغم من أن التعريف الظاهر للشعر الذي يؤكد أن الشعر نتاج إنساني وذلك بوصف الشعر نتاجًا يتجسد في الكلمات، فإن لدينا الطبيعة وهي الشاعر الأكبر بما تولده من أجواء وموسيقا، ولدينا أيضا دليل على شاعرية الشاعر التي لا يحدها إلا خيال الشاعر المطلق والخلاق في حضوره.
وعلى الرغم من اهتمام الشاعر علاء عبد الهادي في ديوانه (إيكاروس أو في تدبير العتمة: يوميات من ثورة 25 يناير) والصادر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بسرد حكايات الثورة عبر أجزاء الديوان الثلاثة وبدايته ونهايته ؛ فإنه حاور فكرة المستحيل التي لا نص يمتلكها فيمحوها، ولا إقامة فيها ولا حلول، فابتكر إيكاروسه المتماهي مع تمرده وصولا الى المعرفة، وكأنه ما يمكن تحقيقه من المستحيل حتى ولو كان ذلك بالكلمات حيث تخفق روحه الخلاقة وحضوره الجليل، فهو الفكرة الجموح المتموجة بين الحلم واليقظة، وأمنية الريح التي لا تنحني إلا للأجنحة ، فعلى مرأى الحالمين والثوار، وعلى حافة الحلم بانتظار المعجزة، كان الشاعر وبكل مجازاته واستعاراته الصوفية، وبتوالي تجلياته، يضبطُ إيقاع الثورة على خاصرة الشعر فيكتب في مقدمة الديوان:
(كانتِ المجموعةُ مهداةً إلى صاحبةِ الاسمِ، لَكنّها لَمْ تَحفَظْ أُخوةَ الدّمِ، وَلمْ تَستحقْ نَزْفَ المرحِ وَالعِشقِ على عَوْراتِ الحروف، ومعَ تَكْرارِ الفِراقِ، نَبَتَ “إيكاروس” طَائِرًا إلى الشّمسِ الّتِي اِستَتَرَت بِنُورِها، وَلَمْ يَعرِفْها إلا مَن عَرَفَ حِجَابَها المضواءَ، وأشرفَ على الكَشف، هكذَا كُنّا، أمّا هُم فَكانوا ونحنُ في مُقامِ العِشقِ، يُدِيرونَ عَتَمَةً.. بسعةِ الفَضاء!)
نلاحظ أن الشاعر وفي انزياح مدهش استخدم كلمة نبت وهو ما أخرجته الأرضُ من زرعٍ وشجرٍ كما تقول المعاجم، لكن لدى الشاعر هي ما توهجت به الكلمات وأخرجته من معنى، ونلاحظ أيضا أن إيكاروس يفرض علينا طاقته التعبيرية الفعالة منذ اللحظة الأولى بوصفه “طَائِرًا إلى الشّمسِ الّتِي اِستَتَرَت بِنُورِها، وَلَمْ يَعرِفْها إلا مَن عَرَفَ حِجَابَها المضواءَ ”.
الديوان هو الحادي عشر من ضمن أثنى عشر ديوان للشاعر الدكتور علاء عبد الهادي، عبر تجربته الشعرية التي امتدت لما يزيد على 40 عاما، فهو شاعر من جيل السبعينيات، وناقد أكاديمي، ومفكر مصري. حاصل على دكتوراة الفلسفة في النقد الأدبي، تخصص أدب مقارن؛ ويعتبر الديوان أول تجربة شعرية نعرفها تربط العمل الشعري بيوميات ثورة. وترتبط نصوصها اللغوية بنصوص بصرية بروابطها البصرية على اليوتيوب، فللديوان فهرس ثان يربط النصوص بروابط من أحداث الثورة، دون أن تكون محض تسجيل أو تابع للحدث؛ لهذا يعتبر ورأيي أن هذا الديوان عمل ينتمي إلى ما تيار ما بعد- الحداثة، من حيث الفكرة التي تحكمها الرؤية وتعدد الأساليب التي يحكمها الابتكار، فهو تجربة جمالية مشعة يحمل سمات الحياة التي انبثق منها، وفي الوقت نفسه يحمل صفاته، وتتساوى فيه نسبة الإبداع المكونة له، وقد ذهبت نصوصه في أحايِينُ كثيرة الى المطلق، فتستيقظ الحياة في الجهة المقابلة، لنجد أن الزمان والمكان هما القصيدة، وسنقدم في هذه القراءة بعض قصائد الديوان:
استخراج التكوين الشكلي من الكلمات: قصيدة (صورة رئيس) نموذجا:
كَانَ يَصْحُو كُلَّ يَوْمٍ، ثُمَّ يَذْهَبُ، إِلَى صُورَتِهِ الْكَثِيرَةِ، عَلَى كُلِّ حَائِطٍ؛ يُحَدِّقُ “طَشَاشًا”..
لَكِنَّ مَا حَيَّرَهُ، أَنَّ قَمِيصَهُ الْحَجَرِيّ، لَا يَتَبَدَّلُ، ولَا يَدْخُلُهُ الْهَوَاءُ، كَابْتِسَامَتِهِ تَمَامًا،
كَانَ يَشْعُرُ أَنَّ صُورَتَهُ تَشِيخُ، وَأَنَّ حُرُوفَهُ الْبَلْهَاءَ تَسَّاقَطُ خَارِجَ الإِطَارِ، وَأَنَّ شَعْرَهُ يَحْتَرِق..،
فَمِرْآتُهُ.. مِنْ ثَلَاثِينَ عَامًا، بَيْضَاءُ، لَا تَجَاعِيدَ فِيهَا. يَقُولُ النَّاسُ:
الْوَجْهُ.. نَفْسُ الْوَجْهِ..
لا حَيَاةَ.. فِيه..
تشكيليًّا الشاعر احتوى المشهد كاملا بتحولاته وأزمانه الحاضرة حضورا كليًّا، ومنحها ضربًا من الحيوية الشعرية، والرؤية البصرية، لتنفتح إلى ما لا نهاية من الدلالات حين يتجاوز المحاكاة الى جماليات التكوين، ومنح ذاكرة القصيدة استمرارية وحضورًا إلى الأبد، عبر المجاز الشعري والاختزال الفني والتشكيلي، وقدرته ايحائيا وتأويليا، فنرى الرئيس الذي يصحو كلّ يوم ويذهب الى رؤية صورته التي تثبت وجوده وحضوره الدائم؛ فصورته على كل حائط لكن الذي يحيره هو أن قميصه الحجري لا يتبدل، ولا يدخله الهواء، فهو لا حياة فيه كابتسامته، فيشعر هذا الرئيس بانهياره وهزيمته داخليًّا فصورته التي لا تتبدل تشيخ، وحروفه البلهاء تسّاقط خارج الإطار.
في هذه القصيدة اختصر الشاعر فكرة الثورة، وموسّق الحضور والغياب، والنهوض والسقوط والزوال، ولا نتعجب إذا رأينا أجزاء الصور المهترئة أسفل اللوحة / الورقة، وأبعد من ذلك سيباغتنا هذا الحضور المذهل والذي سيضمّ المشهد بأكمله في هذا المقطع:
يَقُولُ النَّاسُ:
الْوَجْهُ.. نَفْسُ الْوَجْهِ..
لا حَيَاةَ.. فِيه..
هكذا استخراج الشاعر بين العصي والممكن التكوينَ الشكلي من الكلمات فأصبح لدينا بالإضافة إلى لقصيدة بورتريه شعري أيضا
يقين الشعر وبرهان الموسيقى والتشكيل قصيدة (أوراق الخريف) نموذجا
يمتلك علاء عبد الهادي خاصية متقدمة قابلة للتوسع وللتحول في العلاقات الجمالية بين الكلمات والموسيقى والتشكيل، وهذا ما سنجده في قصائد الديوان، وقصيدة أوراق الخريف نموذج لذلك، لكونها تحوي عناصر فنية كثيرة، وتحوز رؤى دلالية، وحزمًا من الاستعارات والمجازات، يمتد نفوذها الشكلي والمعنوي والدلالي إلى جميع أرجاء القصيدة، فكلمات هذه القصيدة تبدو مستسلمة بنشوة لإغراءات الموسيقى من أجل خلق رقصة أو أداء إيقاعي، فهي مضيئة ومع كل ما ليس هي، تثير الادهاش بزهو انتشاءاتها وانبعاثاتها المتوهجة وبانتقالات الشاعر العجيبة والتي لا تعبر عن قدرة الشاعر في التشكيل فحسب بل على قدرته على تكوين هارموني شعري مبني على تعدد الأصوات، فاستدعى ما أوحت به الموسيقى، وسكبها في هذه الكلمات بوصفها يقينًا ابداعيًّا؛ فكما تختصر ورقة ساقط من الشجرة في فصل الخريف كاملا. تختصر الكلمات الموحية بلحظية موسيقى الحضور؛ فالشاعر جمع في هذه القصيدة بين انطباعية مانيه وديناميكية دوشامب ورؤية جان دوبوفيه، وشاعريته التي جعلت فضاءات القصيدة واسعة فيقول في قصيدة أوراق الخريف:
كَانَتِ الْخُدْعَةُ أَجْمَلَ، وَهُوَ يَذْهَبُ -كُلِّ يَوْمٍ- إِلَى بَارِهِ الْمُصَابِ بالأَرَقْ، كَي يُرَتِّلَ أُغْنِيَّةً عَتِيقَة، تَمْتَدّ مِنْ قِيثَارِهِ الْغَلِيظِ إِلَى “أَوْرَاقِ الْخَرِيف”.
فَذَاتَ وَعْدٍ خَافِتٍ فِي سَمَاءِ بُودَابـِسْت.. تَرَكَتْهُ حَبِيبَتُهُ فِي “الكُوبلِيهِ” الأَخِير، وَلَمْ تَدْلِفْ ثَانِيَةً إِلَى الأُغْنِيَّة.
كَانَتْ نَادِلَةً فَارِهَة، تُطِلُّ، مِنْ فَوْقِ الْفُصُولِ، بأَطْبَاقِهَا، وَهِيَ تُوقِظُ الذِّكْرَيَات، دُونَ مَنَاعَةٍ أَوْ نَدَم؛
كَمْ لامَسَهَا.. هُوَ الْمُحَنَّكُ، فِي نُوتَاتِهِ الْمُدَوَّنَة، دُونَ أَنْ يَشْعُرَ الْحَاضِرُونَ،
فَهَلْ كَانَ يُدْرِكُ أنَّهُمْ.. لَمْ يَحِسُّوا -وَهُوَ “يَعْزِفُ”- كَيْفَ مَالَتْ عَلَى الطَّاوِلاتِ الذَّابـِلَاتِ صَفْصَافَةٌ حَزِينَة؟
لِمَاذَا لَمْ يَتَبَيَّنِ الْحُضُورُ أَوْقَاتَهُ السَّاقِطَةَ؟
كَانَتْ أُغْنِيَّتَهُ الْوَحِيدَةَ، الَّتِي لا يُتْقِنُ غَيْرَهَا، مِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَ الْغِنَاءُ جَمِيلاً كَالْبُكَاءِ. وَهُوَ يَنْتَصِبُ كَكَافُورَةٍ فَارِهَة، لِيَعْزِفَهَا كُلَّ مَرَّة، كَأنَّهَا أَوَّلُ مَرَّة.
لَكِنَّهُم لَمْ يَنْتَبـِهُوا لِلْــ(يَالَيْلِ)، لِلْأَنِينِ.. وَلِلْأُحْجـِيَةِ،
لَمْ يَنْتَبـِهُوا كَيْفَ رَقَصَ الْهَوَاءُ هَكَذَا -حَوْلَهَا-حَتَّى مَرَّتِ الْفُصُولُ كُلُّهَا فِي نَغْمَةٍ وَاحِدَة..
كَانَتِ الأُغْنِيَّةُ تَهْوِي فَوْقَ حِجْرِهِ تَمَامًا، مُهَيَّأَةً كَأُنْثَى، تَرْفُلُ، مِنْ فَوْقِ سُلَّمِهِ، نَشْوَى، كَلَوْعَةِ الْقَاهِرَةِ، كالْمَسَاءِ، وَهِيَ تَمُصُّ كَوَرَقَةِ النَّشَافِ خُسْرَانَهُ الْمُضْطَرِب.
لِمَاذَا لَمْ يَشْعُرْ بِهَا غَيْرُنَا؟
فَكَمْ شَمْسٍ تَعَرَّتْ فَوْقَ فَخْذَيْهَا الطَّوِيلَتَيْنِ، وَكَمِ ارْتَجَلَ مَاءَهُ دَافِقًا فِي الْمُقَام، وَبَيْنَ السُّطُور،
وَكَمِ انْخَفَضَ الْمُقَامُ في الْعُيُونِ هَائِمًا -دُونَ جَوَاب- كَسِيزِيف: يَرْتَجـِلُ خُلْسَةً فِي السُّقُوطِ نِدَاءً كَالأُغْنِيَّة.
وَكَمْ دَاسَ الْحُضُورُ -دُونَ أَنْ يَنْتَبـِهُوا- لَحَظَاتِهِ الْحُسْنَى.
وَكَمْ تَمَنَّيْتُ أَنْ يَرْحَلُوا دُونَ أَنْ يَتْرُكُوا بَيْنَ أَصَابـِعِهِ الْبَارعَة، صَدَى غَفْلَتِهـِمِ الْلَعِينَة..
رسم الشاعر عباراته لتبدو في حالة حركة أبدية ومستمرّة، فمن هكذا المركَّبة من هاء التَّنبيه وكاف التَّشبيه وذا اسم الإشارة تبدأ قصيدة أخرى ساحرة متوارية في ثنايا نص مواره بالحركة ومفعمة بالحياة ومنتشيه بالهواء المضيء بالألوان، وهكذا هنا محورا لصور تتوالد من بعضها بعضًا ضمن احتمالات متعددة ، يبدو الامر كأن الفكرة قد انتقلت عبر الكلمات من دون قطع الفضاء الفاصل بين القصيدة والمتلقي، لذا هذا النص بالذات نموذج للنص الذي ينهل من ذاته، وهذا مالم يخطر على بال هنري ماتيس عندما رسم لوحته (الرقصة)، ولا على بال مارسيـل دُوشـان عندما رسم لوحته (عاريـة تهبـط السلّـم) ولاجاك فيتريانو في (الساقي المغني).
ثم تتناسل الكلمات، من الممكن أن نقول إنها تتحدث عن لحظات الكشف والتجلي عند الشاعر ولتثبت انها ليس ايحاءات موسيقية، بل هي الموسيقى ذاتها، تقدم برهانها عبر يقين الشعر الذي يتحدى كل قراءة ممكنة متجاوزة القصيدة نفسها إلى ما بعد القصيدة:
فَهَلْ أَدْرَكَ
أَنَّ فِرْقَتَهُ نَفْسَهَا، لَمْ تَنْتَبِه يَوْمًا إِلَى كُلِّ هَذَا الرَّبـِيع الْمُعَطَّل فِي بَدَاهَةِ الْغِنَاء؟ أَوْ تَذُقْ مَرَقَ الْخَريفِ الْمُرِّ فِي عَيْنَيْهِ الْغَائِرَتَيْن؟
وَلأَنَّهُمْ نَائِمُون، كَانَ الرَّبـِيعُ الدُّونُ قَاسِيًا كَالْبَلاهَةِ، سَرِيعَ الْهُرُوبِ كَقَاتِلٍ رَخِيص..
نتساءل أيضا أي موسيقى ستعزف فرقته الغائمة؛ فعندما رسم جان دوبوفيه لوحة جاز باند– ديرتي ستايل بلوز، كانت الرغبة هي الاستماع للموسيقي عبر لغة الألوان، وغاية علاء عبد الهادي تحفيز شهية الكلمات لرسم الموسيقى بتوافق تام مع الفكرة، وهنا تتجلى تجربته الشعرية، فجعل ورقة التوت ترن صوتًا بين العيون فجمع هنا بين السمع والبصر وجعلهما على مستوى واحد يتجاذبان المعنى وهذا هو انزياح الانزياح؛ فكان لون الموسيقى رمادي باهت محاط بالذبول، انه لون الخريف الذي يتدفَّق في الكلمات عبر مفاصل القصيدة
هَكَذَا.. ظَلَّتْ أَصَابـِعُ الشِّتَاءِ، مُتَشَبّـِثَةً بالنَّافِذَةِ الْقَدِيمَة، ثُمَّ ذَابَتْ مَعَ الذِّكْرَيَات،
حِينَ رَنَّتْ وَرَقَةُ تُوتٍ بَيْنَ الْعُيُونِ، عَلَى غَابَةٍ عَرَّاهَا الشَّبَقْ، أَوْ كَسَاهَا الرَّحِيل..
مِنْ أَجْلِ هَذَا اِصْفَرَّتْ أَصَابـِعُهُ، ثُمَّ سَقَطَتْ مَعَ الأُغْنِيَّة.. زَاعِقَةً فِي الْحُضُور:
لَقَدْ بَدَأَ الْخَريفُ..
بَدَأَ الْخَرِيف..
الكتابة من ناحية الضوء قصيدة (سيدة الظلال الحبيسة) نموذجا
للشاعر علاء عبد الهادي حساسيته تجاه الكلمات كحساسية الفنان التشكيلي تجاه الضوء والألوان، فهو رسم لوحة ووسع افق الفكرة لتحوي ما يحيط بها وما يجاورها، فكثف حضورها الذي يسبق كلماتها، وفعل حواس الكلمات فحرك عين الحلم، وتحصن بالكلمات فحاز بلاغتها فصار بها ممتلكاً كل مفاتيحها التي تأخذه نحو الابداع، وهذا ما سنجده عبر قصيدة (سيدة الظلال الحبيسة) التي تكاد الألوان تضيء عبر خفق شعري غامض وشفيف فيقول الشاعر:
الْكِتَابَةُ عُزْلَتِي الْآمِنَة, وَأَنَا أَجْرَحُ نَفْسِي بَيْنَ الشَّفَتَيْنِ تَمَامًا -كَيْ أَكُونَ طَبِيعِيًّا- ثُمَّ أَضَعُ اِبْتِسَامَةً صَامِدَة,
وَكَانَ هُنَاكَ شَاعِرٌ.. وَقَفَ تَحْتَ لُعَابِ قَمَر! بَعْدَ الشّرْفَةِ, وَقَبْلَ وَعْدِ الشّجَرَةِ تَمَامًا, رَمَى, صِنَارَتَهُ, ثُمَّ “شَمّرَ عَنْ” أكْمَامِهِ, وَجَلَسَ يَنْتَظِر,
وَكَانَتْ هُنَاكَ نُصُوصٌ مُبَعْثَرَةٌ, لَا يَلُمُّهَا أَحَد, وَخَفْقٌ فِي الْهَوَاءِ غَامِضٌ لَكِنَّهُ جَمِيل..
وَكَانَتْ هُنَاكَ -تَحْتَ سَطْحِ الْحَيَاةِ- ضَفَادِعُ كَأنَّهَا بَكْمَاءُ.. لا يَكُفُّ نَقِيقُهَا, وَقَصَائِدُ تَسْتَهِلُّ كالرَّضِيعِ.. وَكَأَنَّهَا مَتْرُوكَةٌ دُونَ قَصْدٍ فِي الْخَفَاءِ, رُبَّمَا تُرَى,
لَعَلَّهَا.. تَمْلأُ الْعَيْنَ.. كَالدَّمُوعِ.. وَالْغُبَار!
مُؤلِمٌ أَنْ تَبْتَسِمَ لِكُلِّ هَؤلَاءِ هَكَذَا؛ أَوْ أَنْ تَكَونَ مُنْسَجـِمًا كَالْمِيَاهِ, وَالْمَاءُ أَوَّلُ مَنْ غَرَق!
فَهَلْ كَانَ يَجـِبُ أَنْ تَحْلُمَ بالْمَوْتِ! حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَوْتُ سَخِيفًا, حَتَّى لَوْ قَابَلْتَ عَدَدًا مِنْهُم هُنَاكَ؟
هَلْ كَانَ يَجـِبُ أَنْ تَهْرُبَ إِلَى الضَّاحِيَة, إِلَى وَرَقَةٍ بَيْضَاء, كَيْلا تَعِيشَ وَحِيدًا.. ؟
وَرَقَةٍ تَأمَنُكَ.. تَعُودُ بِهَا..
إِلَى عَالَمٍ تَأْلُفُهُ..
دُونَ خَوْف.
من أين تأتي الكلمات وإلى أين تذهب هذا ما رتله القمر وتموّج في الكلمات وأوّله الشاعر وتمناه جيرار جينيه في نصه الجامع فهو كحّيرة الذهب ويقين الفضة
النمو عبر الألوان قصيدة (رمادي أخضر اللون) نموذجا
وفي قصيدة (رمادي أخضر اللون) وهي من قصائد الديوان القصيرة سنجد أثر اللغة الخصبة، ونسيجها الصافي، فهي ليست قصيدة نثرية مباشرة وبسيطة على ظاهر القول. لكن هذه القصيدة تعتبر فاصلة بين مرحلتين أو هي بداية لتشكيل مرحلة جديدة فهي تشكيل للنمو عبر الألوان، وعبر رمزية رؤيوية توجز كلية القدرة على التعبير، فكأن الشاعر يقول هذا والبقية تأتي، فهو جعلنا نتسأل عن اللون الرمادي وهو لون حيادي يميل الى الرتابة ولماذا أضاف الشاعر إليه اللون الأخضر، بينما لدينا قلبان نابضان بالحياة وبينهما منطقة خضراء تشرق بالنمو روحيا! يقول فيها:
كَانَ قَلْبُ الْأرْضِ أَسْوَد!
وَكَانَ قَلْبُ الْبِذْرَةِ أَبْيَض؛
بَيْنَ
الأَسْوَدِ… …… …… …وَالْأبْيَض,
مِنْطَقَةٌ
خَضْرَاءْ!
بلاغة اللغة وبلاغة الخيال قصيده (المسافة المطوقة) نموذجًا
كان العرب قديما يحسبون المسافة بالزمن لكن الشاعر حسب مسافته في قصيدة (المسافة المطوقة) بالخيال وبالرؤى أو باختراق حجب الكلمات والمعاني، فبلاغة اللغة هي التي أنتجت الشعر، وبلاغة الخيال هي التي أنتجت القصيدة، فكان إليها منتهى بلاغة اللغة وبلاغة الخيال، فالشاعر جعلنا نتتبع فتنة اللغة، ونستجيب إلى ما تمليه علينا فنستشعر غريزة الشعر المنضوية في البعيد، حتى أننا لا نستطيع أن نغادرها بسهولة ، فكل جملة تشع منها غريزة الحياة تعبر عن سحر اللحظة التي نمتلكها أو لا نمتلكها، تلك التي كانت تعتمل في الذات، والتي كان بإمكانها أن تكون
فهو يقول في حكمة القصيدة (فِي كُلِّ شَيءٍ، شِعْرٌ، لا يَكُفُّ عَنِ الصُّرَاخ، لَكِنَّنَا لانُحْسِنُ الإنْصَات)..
قَدْ صِرْتِ فِي عَيْنَيَّ نَجْمًا, يَجْتَوِي لا يَحْتَوِي, رُدّي عَلَيَّ مَسَافَتِي, أَوْ كَسَّرِي قَيْدَ الْيَمَامِ وَمَا تَيَسَّرَ, كَيْ تَلُوصَ عُيُونُنَا.. كَالْحَرْفِ يَصْبُو.. كَالْكَلام.
هَذَا اِبْنُ حَزْمٍ يَرْتَجـِي وَلَهًا, وَلَمْ تُعْطِيهِ فَوْقَ مُلَاءَتِي الْبَيْضَاءِ أَسْرَارَ الْعَرَافَة.
هَذَا “الْمُحَلَّى” يَنْتَوِي قُرْبًا, وَلَمْ تُعْطِيهِ غَيْرَ تَحَفُّظٍ فِي الْقَوْلِ, أَوْ طَوْقَ الْمَسَافَة.
وَالحُبُّ يَهْتَبـِلُ الشَّهِيقَ كَمَا يَشَاءْ, وَأنَا الْهَوِيُّ, العِشْقُ إِثْمُ مَشَاعِرِي, وَمَشَاعَرِي كَالطِّفْلِ- كَامِلَةٌ, تَمُدُّ الخَيْرَ مِنْ قَدَمِ الحُفَاةِ الجَائِعِينَ, وَلا تَخُون.
لا تَسْتَقِيمُ عَلَى الْكَرَاهَةِ إِنْ أَحَبَّت.
وَالْخَطْوُ خَلْفَ النَّاسِ يَنْتَظِرُ الطَّرِيق،
لا تَقْرَئِي زَبَدِي، أَنَا مِثْلُ الْمَسَافَةِ نَافِعٌ فِي الأَرْضِ حِينًا, رُبَّمَا, لَكِنَّنَا لَا نَرْتَجـِي مِنْهَا الْبَقَاء.
هَلْ مَنْ يُعَلِّمُهَا: الْمَسَافَةَ لا تُطَوَّقُ كالغُبَارْ؟ بَلْ قَدْ تَجـِفُّ, وَقَدْ تَهِيمُ, هِيَ الْيَمَامُ الْحُرُّ, قَدْ يَحْنُو, يَحُطُّ عَلَى دَمِي, أَوْ يَشْتَهِي خَبْطَ السَّحَاب.
لِتُطَوّقِينِي إِنْ أرَدْتِ تَطَرُّفًا، لِتُطَوْقِيهَا إِنْ أرَدْتِ تَحَفُّظًا، أَنَا لا أُبَالِي كَيْفَ طَوَّقْتِ الْحَنِينَ, مُقَدَّرٌ كَالأَنْبـِيَاء.
فـإيكاروس الباهر يكشف لنا عن درجة التأثير الذي مارسه على متلقيه هو ابعد من خفقة جناح واوسع من عين الدهشة وهي تسأل عن اللحظة القادمة
نرى أن شاعرية هذه الديوان تجاوزت الزمن الشخصي الذي عايشه الشاعر وحتى زمن الثورة الذي يروي حكاياتها، فهو يمثل اللحظة التي يُقرأ فيها وليس اللحظة التي كتب فيها؛ وإذا لم نقل غير هذا فأننا سنذهب الى لوحة سقوط إيكاروس التي رسمها بيتر بريغل حيث لم ينتبه أي من الشخوص في اللوحة الى سقوطه وبالكاد يمكن رؤيته في أقصى يمين القسم الأوسط وهو يغرق وهذا لايتناسب مع شاعرية
الديوان تمام
إن الناظر الى تجربة علاء عبد الهادي الشعرية يجد أنه جعل من الانعتاق والسعي إلى المطلق محورًا تأسيسيًّا للكتابة الإبداعية، فهو يتقدم إلى القصيدة، مفتونًا بها ليحل فيها، يلمح روحه بمدد الكلمات، بحضورها الخفي في مقام التجلي من الباطن الى الظاهر وبلغة صوفية معرفية تمردت العبارة فيها على ذاتها لاتساع رؤيتها فكانت هكذا او على هذا النحو، والاهم من ذلك الوعي الجمالي المتعالي في فن الشعر الكامن في شعور علاء عبد الهادي؛ فهذا الشعر ليس تجربة في اللغة بل إنه السحر الذي يدار بواسطة الكلمات، وكلمة الشعر تتبع كل ماهو مشاع من الروح الذي يبدو أنه خرج مباشرة من ذات الشاعر وسحرها يدوم اطول من تعويذة الفيزياء في الكيمياء، وهذا هو الانتماء المتبادل بين الكتابة والإحساس بها
غرفة 19
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل