افتتاحية العدد السابع عشر:
حفرٌ في تربة الهواء
الأديبة إخلاص فرنسيس
في زمنِ الحرب،تتبدّلُ سريرةُ النفوس، وندورُ في دوّامةٍ من التحوّلاتِ التي تُغدقُ علينا بجنونها المميت. تتزاحمُ الانطباعاتُ في رؤوسنا ما بين الأسودِ والرّمادي، وما بين الأحمرِ النازف من مُقلةِ الإنسانيّة.
في مشهدٍ مُربك، يجدُ المُبدعُ الأمين نفسَهُ مقاتلًا في آلةِ حربٍ عملاقة، يتأرجحُ ما بين رغبةِ التحرّر من ضراوةِ الواقع، وما بين مسارِ الأحداثِ التاريخيّة التي لا تترك لأحدٍ أن يلوذَ بالصمت. هناك، حيث جسدُ الإنسانِ حبيسٌ بين الحياةِ والموت، ككلمةٍ تبحثُ عن معناها، تبقى الرّوحُ — ذاك الطائرُ المقيد — توّاقةً إلى الانطلاق، إلى كسرِ القواعد، والتمرّدِ على الظرفِ والمكان، لترتقي بالحرفِ إلى مقامِ الإبداع.
أضع العددُ السابعُ عشر من مجلتكم “غرفة 19″…بين ايديكم
عددٌ يعني لي الكثير من الحبرِ الذي أُريقَ على الورق، والكثير من الدمِ الذي سقى تُربةَ الوطن.
فمع كلّ مقالٍ أو قصيدةٍ تصلني، ومع كلّ لوحةٍ أو بحثٍ يُرسلُ إلينا، أسافرُ في روحِ الكاتبِ المُبدع، في شحنةٍ وجدانيّةٍ عالية، ومجازاتٍ تحملُ بين سطورها لقاءً خفيًّا بين الحبرِ والدّم، بيني وبين الكاتب، ثم بيننا وبين القارئِ في هذا الفضاءِ الأزرق.
تفيضُ روحي شكرًا لهذا التواصلِ الشعوريِّ الجميل، الذي يجعلُ من النّصوص امتدادًا حيًّا لرسالةِ المجلّة. إذ نكتبُ غدًا جديدًا، نستلهمُ مدادَهُ من قلوبِنا، ونُخبرُ الكونَ أننا في قلبِ الإنسانيّة نقيم، رغم ما تعصفُ بنا الحياةُ من أوجاع. نُبرعِمُ من الآهاتِ أغنياتٍ للحياة، ومن الأنينِ نوتةً موسيقيّة، تُحرّكها خطواتُ أقلامِنا، تمسحُ آلامَنا، وتفتحُ نوافذَ الأملِ في وجهِ العتمة.
هنا، في “غرفة 19″، يجتمعَ المبدعون والمبدعات، لا تُعيقُنا المسافات، لأنّ لنا رحابةَ هذا الفضاءِ الأزرق. وجوهٌ نتطلّعُ إليها في وحشةِ السّكون، وعيونٌ تتصفّحُ انعكاسَ أرواحِنا في كلماتٍ بها نحيا ونتحرك، وحرفُ يكتُبنا، لنرتقي، ولنُضيء الفراغ، حيث العبثُ والموت.
نُحاول استدعاءَ صوتٍ في داخلنا لم نعد نسمعُه، ونُفتّشُ عن أولئك الذين تشبّثوا بخيوطِ الحلم، فبنوا صروحًا من أملٍ، من موسيقا ومن رجاء.نكتبُ عنهم، وعنّا، وعن الحفرِ في المعاني حين تجفُّ الأرض، وتُغلِقُ السماءُ نوافذَها، نكتب صلواتِ المطرِ المتأخّر، وبإزميلِ الحرفِ نحفرُ تُربةَ الهواء…
نُصغي إلى صوتٍ يُنادينا من داخلِ اللغة، من خلفِ المعنى، من على حافّةِ الصلاةِ والسّؤال، في عالمٍ بات ضيّقًا على الأحلام، ضيّقًا على الإنسان، نكتب، لأننا لا نملكُ إلا أن نكون — بالحرفِ، صوتًا للوجع، وبالكلمةِ، جسدًا للرّوح.
نكتبُ كي لا نخونَ ذاكرةَ الأجيالِ القادمة، وأحلامهم.
نستحضرُ الحكاياتِ والوجوهَ التي آمنت بالكلمةِ ملاذًا، وبالصورةِ خلاصًا، وبالخيالِ شراكةً في الوجود. نُراهنُ على الإبداعِ كفعلٍ وجودي، في عالمٍ تتكثّفُ فيه الحقائقُ وتتلاشى القيم، ليُصبحَ الحفرُ في الهواءِ فعلًا رمزيًّا لمواجهةِ العدم، وعتبًا مُعلّقًا على أسوارِ الكون، علَّهُ يسمعُنا.
في كلّ عدد، نفتحُ نقاشًا ومساحةً للمقاومة، محوّلين الإبداعَ رافعةً ضدّ التّفاهة، وبالأملِ نُوصِدُ بابَ الألم، نطرحُ نصوصًا إبداعيّةً كأدواتِ حفرٍ في المعنى، ووسائلَ عتبٍ على واقعٍ يُقصي الحالمين، مُسلّطين الضّوء على الكُتّاب والفنّانين الذين ما زالوا خيطَ الحياةِ الرّفيعَ بين الإنسان وأخيه الإنسان.
في عالمٍ تَكالبت فيه الهشاشةُ، وقَذفت بالإنسانيّةِ إلى الهامش، يظهرُ مَن يُصرّ على تقاسُمِ العبء والوَهَج، على رسمِ أثرٍ في الكون لا يُمحى. عبر النصوص والمقالات والقصائد، نستعيدُ الهُويّة، ونُؤمنُ بإمكانيّة أن نعيشَ وسطَ الركام، دون أن نخسرَ دهشةَ السّؤال، عن أولئك الذين سبقونا إلى الحفر، تاركين لنا إشاراتٍ خفيّة… لعلّنا نُكملُ الطريق.
هذا العددُ،
دعوةٌ للتأمّل، لا للهروب.
للمساءلة، لا للإنكار.
للكتابةِ التي تُحاورُ تُربةَ الهواء، تُصقِلُها بغرسٍ لا يفنى، صدىً للكونِ الفسيح.
فعلُ إيمانٍ: الإبداعُ ليسَ ترفًا… بل ضرورة.