حسن عبدالله يعود الى كنف ” الدردارة “
شوقي بزيع
ليس حسن عبدالله مجرد تفصيل عابر في الحياة الثقافية اللبنانية , لكي أستحضر للحديث عنه , ما تيسر العثور عليه من متوفر القول ومفردات الرثاء العادي , بل هو الشاعر الاستثنائي الذي أضاف الى فرادة موهبته , فرادة مماثلة في التواضع والنزاهة والحضور المحبب . وأنا على يقين تام من أن الشطر القليل من العمرالذي تبقى لنا , نحن أصدقاءه وأترابه ومجايليه , بعد غيابه, لن يكون أبداً مماثلاً لما عشناه , في ظل حضوره الوارف وروحه المرحة ولغته الآسرة . صحيح أن رحلة حسن مع المرض كانت طويلة وشاقة , وقد اضطُر الى العيش بثلث رئتيه , بعد أن فتك السرطان بالثلثين الآخرين , وأن الحياة التي أحبها حتى الثمالة باتت عبئه الثقيل لا متعته الكبرى , ولكن من يعرفونه عن قرب , لم يكونوا ليتصوروا أبداً حياتهم من دونه , أو يركنوا الى كرة أرضية خالية من مروره الخفيف على أديمها المثقل بالمتاعب
أتذكر الآن وأنا أعود خمسين عاماً الى الوراء , الطريقة الطريفة والمشوقة التي زف لنا الشاعر محمد العبدالله بواسطتها , نحن الشبان القادمين من قرى الجنوب ودساكره للإلتحاق بكلية التربية , نبأ وصول قريبه وصديقه حسن الى بيروت , لإحياء أمسيته الشعرية الأولى في أحد منتدياتها الثقافية . قال محمد يومها إن قريبه ليس شاعراً متمكناً من أدواته فحسب , بل هو شخص لماح وبالغ الذكاء , ليضيف بابتسامة ماكرة بأن لديه سحره الفريد في علاقته مع النساء , وأننا محظوظون تماماً لأن قدومه الى بيروت سيقتصر على أيام معدودة , يعود بعدها الى صيدا , التي وفد إليها من بلدته الخيام , ليعمل مدرساٍ في ثانويتها الرسمية
” أنّى رحلتَ فسوف تتبعك الخيام “, هتف حسن عبدالله بالطفل الذي كانه , في نهاية أمسيته الرائعة التي فاجأ بها الحضور , موهبةً وطرافةً وبراعة في الإلقاء . وكان علينا أن ننتظر بعدها سنوات عدة , لكي يُكمل حسن زحفه البطيء و” المدروس ” باتجاه بيروت , التي لن يغادرها بعد ذلك إلا على متن سيارة الاسعاف التي أقلته في رحلة العودة الأخيرة الى الخيام
شاعر وأديب لبناني، له العديد من الأعمال الإبداعية المنشورة، كما غنى من شعره عدة فنانين
لبنانيين
حسن العبدلله
كان حسن يشِيع أينما حلّ عدوى حضوره المحبب في المكان , فيما تثير تعليقاته الطريفة واللماحة عاصفة لا تهدأ من قهقهات الدهشة والاستحسان . ورغم قِصر قامته , وخلو رأسه الكامل من الشَّعر وعدم إفراطه في التأنق , فقد كانت لديه نجوميته اللافتة التي لم تكن وليدة الاحتفاء النرجسي بالذات , كما هو حال الكثير من المثقفين , بل كان ما يحمله من خصال , هو النعمة الخاصة التي امتلكها بالفطرة , والتي كانت تبعده دائماً عن الغرور والأبهة الاستعراضية والثمل بالنفس
والحديث عن حسن عبدالله لا يستقيم بأي حال دون الحديث عن عينيه الواسعتين على جحوظ قليل , وعن نظراته الثاقبة التي تُظهره بمظهر الصياد المتربص بطرائده وغنائمه المقبلة . ولعل تفرسه الطويل في الأشياء هو الذي كان يُشعرنا أحياناً بأن شخصاً مثله , نفّاذاً وواسع الحيلة , يمكن اختزاله في عينيه , وحمْله بالتالي على محمل الصقور . فهو رغم كونه قصير القامة و ” قليل الجسد “, فقد كان يمتلك , كما يحدث في الأحلام , قدرة التحليق الشاهق فوق العالم , الذي ينبسط له ” كالوادي تحت الطائر ” , وفق تعبيره الحرفي . وإذ انعكست قدراته البصرية تلك , في صوره الشعرية المباغتة , فقد تجلت في الآن ذاته عبر رسوماته الموزعة بين الزيت والأكواريل , والتي كشفت لدى عرضها قبل سنوات في إحدى صالات بيروت , عن قدراته التشكيلية التي امتلكها بالفطرة , شأن العديد من مواهبه
والحقيقة أن مجموعة حسن الأولى ” أذكر أنني أحببت ” الصادرة عام 1978 , لم تكن تشبه البواكير المتعثرة في شيء , لأنها حملت بصمته الخاصة على قماشة اللغة , وأظهرت براعته الفائقة في الدمج بين المهارة والبساطة , بقدر ما أفصحت عن امتلائه بأسئلة الوجود الكبرى , كالحب والصداقة والتراث والوطن والحياة والزمن والحرب والموت . ومن يقرأ قصيدته الطويلة ” صيدا ” , لا بد أن يشعر بالدهشة إزاء نفَسه الدرامي الملحمي , وقراءته الثاقبة لواقع المدينة الراهن ,كما لأساطيرها وحضورها في التاريخ . ولم يكن له بالطبع أن يحصل على مبتغاه , لو لم يحشد لقصيدته تلك , كل ما يملكه من غنى المخيلة وتقنيات السرد والنفس الحكائي والمسرحي , وصولاً الى التنقل الرشيق بين الضمائر والايقاعات والصيغ التعبيرية . وهو ما عكسه بوضوح مطلع القصيدة اللافت
حفروا في الأرضْ
وجدوا فخّاراً , أفكاراً
لحناً جوفياً منسرباً من أعماق البحرْ
حفروا في الأرضْ
وجدوا رجلاً يحفر في الأرضْ
خطأً وجدوا سيارةْ
قصفتْ طائرةٌ مركبةَ الفرعونِ
انفجرتْ موسيقى يوم الإثنينِ
ابتدأتْ صيدا
وإذا كان عبدالله قد راهن في بداية الحرب الأهلية اللبنانية , وككثر آخرين , على الطرف الذي اعتبره من زاويته ,مجسداً فعلياً لقيم الحرية والعدالة والخروج من المأزق الطائفي , كما يظهر في قصيدته ” من أين أدخل في الوطن ” و” أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها ” , اللتين غناهما مرسيل خليفة , فإن قلقه المتأصل وحدسه الاستشرافي الثاقب , كانا يدفعان بمواقفه السياسية والايديولوجية الى الوراء , ليحل محلهما شعور مرير بانسداد الأفق , ولا جدوى التذابح الأهلي . ففي قصيدته ” سقوط المهرج ” تبدو ” المسافة بين الهزيمة والإنتصار , لها صورة الموت والمهزلة ” . كما تتصادى قصيدته ” الحصرم ” مع ” لعازر” خليل حاوي , في إعلانها الموجع عن استحالة الرهان على الانبعاث في أرض عاقر
تعبي حامضٌ
أوُدِع الأرض كفّي
فتعصرها حصرماً في عيوني
هذه الأرضُ , هذي الفصولُ , الشموسُ
السماوات
تُخطئني دائماً وتصيب بعيداً
كأنْ لم تُسوّ يدي لالتقاط الثمار
كأنّ يدي سوّيتْ لتكون أداة الخساره
وإذا كانت المجموعة , كما سائر أعمال الشاعر اللاحقة , قد اتسمت على مستوى الرؤية والمضمون , بانحيازه الحاسم الى صورة الوطن الواحد , والمقاوم لكل أشكال الاحتلال والعسف والتفتيت , فإن ذلك لم يتم بلوغه عبر الشعارات المؤدلجة والأسلوب التقريري والخطابة الجوفاء , بل تنصهر جميعها في مرجل اللغة النابضة بالصدق , والخارجة من الشغاف والمترعة بالمفارقات . كما تُحسب لحسن دينامية أسلوبه البعيد عن النمذجة والتنميط , وبراعته في تطويع الأوزان , ومهارته في تقسيم الجمل , وطريقته الحاذقة في إنهاء البيت الشعري , وفي اختيار القافية ووضعها في مكانها الملائم , دون تعسف أو افتعال
أما قصيدته ” الدردارة ” , التي أصدرها في كتاب مستقل , مستلهماً عنوانها من مجمع مائي صغير في بلدته الخيام , فقد عبّرت أفضل تعبير حنين الشاعر الجارف جارف الى الماضي الذي يلمع بفراديسه الأصفى قبالة كهولته الموحشة . وفيما تقدم المطولة , على المستوى الأفقي , صورة بانورامية زاخرة بالمرئيات والأصوات والألوان وعناصر الطبيعة وكائناتها , تتجه على المستوى العمودي الى التوغل في إشكاليات العلاقة بين الانسان وذاته , وبين الذات كحاضر مستلب , والذات كمكان وزمان مفقودين . وكما لو أن الشاعر كان يدرك في أعماقه أن هذه القصيدة بالذات هي ” يتيمته ” وأيقونته ودرة أعماله , فقد حشد لها كل ما ادّخرته مخيلته من صور الطفولة وتمثلاتها وقصاصاتها الوردية , وكل ما اختزنه سمْعه من إيقاعات , وبصره من وجودات مرئية , وهو الذي حوّل البحر الكامل الى سبيكة مدهشة من المجازات وتموجات النبر , مستعيناً بالمفردات المحكية , والشجن الصوتي المتقلب بين السرعة والبطء , وبين العلو والخفوت . وهو يقول في مستهلها
الماء يأتي راكباً تيناً وصفصافاً
يقيم دقيقتين على سفوح العين
ثم يعود في ” سرفيس ” بيروتَ – الخيامْ
سلّم على .. سلّم على
يا أيها الماء التحيةُ , أيها الماء الهديةُ
أيها الماء السلامْ
وعلى الذي في القبرِ
واسقِ القبرَ
واجعل أيها الماء النهارَ مساحةً مزروعةً جزراً
وطيرٌ راكضٌ تحت الشتاءْ
وإنني في الصيف من عشرين عامْ
أفعى على برّ الخيامْ
ولم يقلل اقتصار نتاج عبدالله الشعري على مجموعات أربع , وخامسة قيد الطبع , من خصوصية تجربته وتميزها , وهو الذي طالما آثر النوع على الكم , والاختزال على الحشو والإطناب . ومع أنه احتفظ في مجموعته الثالثة ” راعي الضباب ” , التي تأخرت ثمانية عشر عاماً عن سابقتها , ببعض خصائص شعره الفنية السابقة , فقد اتجه بقصائده نحو المزيد من الحذف والإضمار والتخلص من الزوائد , مصوباً نحو جوهر المعنى , وممعناً في بساطته وطراوة أسلوبه وتقشفه اللغوي , الى الحد الذي كادت تختفي معه المسافة بين الشعر والنثر . وهو ما أكدته مجموعته الرابعة ” ظل الوردة ” التي اتجه عبرها الى نوع من الومضات النثرية التأملية والشبيهة بالتوقيعات , كمابدت محصلة طبيعية لعراكه مع الحذلقة الشكلية والزخرف اللغوي , والكلام الفائض
وإذا كانت هذه المقالة لا تتسع للحديث عن تجربة حسن عبدالله الرائدة في مجال الكتابة الأطفال , فلن تفوتني الاشارة رغم ذلك , إلى أن ما أنتجه حسن في هذا المجال , وقد ناهز الكتب الستين , لا يقل براعة وإدهاشاً عن كتاباته الأخرى . لا بل ندر أن استطاع أحد من عشاق لغة الضاد والمشتغلين بها , أن يعبر عن جمالياتها وحكايا حروفها وكهربائها المختزنة , كما فعل حسن في مجموعته ” أنا الألف ” , المقررة في بعض مناهج الدراسة , والتي يحفظها الآلاف من الصغار , والكبار أيضاً , عن ظهر قلب
على أن الشاعر لم يبرع الى أبعد الحدود في الكتابة عن الطفولة , إلا لأنه احتفظ في داخله بكامل نقائه , وبكامل براءته الطفولية . وهو ولو انتقل جسداً الى بيروت , فقد ظلت روحه مقيمة داخل ذلك الأرخبيل العجائبي المترع بالخضرة والماء , الذي يصل سهل الخيام بسهل مرجعيون . ولعل ما يسّر عليه وطأة الموت , رغم تعلقه المفرط بالحياة , هو حنينه الأبدي للعودة الى كنف المياه الأم التي ظل يشحذ لغته على سندانها الصلب , ويرفد مخيلته بكل ما تحتاجه من تشابيه وصورٍ وتوريات . وحيث لم يكونوا كثراً أولئك الذين حملهم الوفاء لمبدعهم الأثير , الى السير وراء نعشه , فإن المشهد على المقلب الآخر من الكائنات , كان مختلفاً تماماً , حيث خرجت الطيور والأشجار وفراشات الحقول والحشائش الصغيرة التي احتفت بها قصائده , لاستقبال الشاعر العائد بعد غربة مضنية , الى مسقط رأسه ولغته وقلبه . أما الماء الذي تغلغل وادعاً وعذباً في شعر حسن عبدالله , فقد خرج بمفرده عن السرب لتحية الشاعر , وتنفيذاً لوصيته الاستشرافية التي اختتم بها قصيدة ” الدردارة ”
قد لا أكون هناك في تموز ذاك العامْ
لكنْ , أيها الماء الذي وثب الزمانَ
وجاء محروراً إليّْ
سلّم عليّْ
سلّم عليّْ