الثلاثاء 6 سبتمبر 2022 إبراهيم العريس ل أندبندت عربية
ربما يعرف كثر من الناس أن ثمة من إبداع الأخوين رحباني وتمثيل وغناء فيروز، مغناة هي “بياع الخواتم” بل يمكننا القول إن “بياع الخواتم” تكاد تكون الأجمل والأشهر بين الأعمال الكثيرة من النوع نفسه التي حققها الأخوان المبدعان الموهوبان مع فيروز ولكن أحياناً من دونها. ولكن من المؤكد أن الذين يعرفون الفيلم الذي حققه يوسف شاهين انطلاقاً من هذه المغناة الساحرة – مع أن في إمكاننا أن نغرق في النقاش من حول الموقف الملتبس فيها من الآخر والقبول به، أي من الغريب بشكل عام – يشكلون أضعاف أضعاف من شاهدوا المغناة على المسرح. ففي نهاية الأمر يعتبر فيلم شاهين هذا والذي يحمل العنوان نفسه، الفيلم الأكثر لبنانية والأكثر جمالاً من بين كل ما صوّر في لبنان منذ بداية السينما اللبنانية وحتى أواسط السبعينات
شاهيني بالصدفة
من ناحية مبدئية، لم يكن لفيلم “بياع الخواتم” أن يكون فيلماً شاهينياً، حتى وإن كان شاهين قد سبق له أن خاض الكوميديا الموسيقية – مع فريد الأطرش – بقسط ضئيل من النجاح حقاً، إنما بشكل مميز عما كان يُحقّق من هذا النوع في مصر. ففي البداية كان من المتفق عليه، في بيروت بين المنتج السوري نادر الأتاسي والأخوين رحباني، أن يقوم بتحويل مغناة “بياع الخواتم” إلى فيلم سينمائي مخرج فرنسي هو برنار فاريل. ولكن يبدو أن إشكالاً وقع بين هذا الأخير والرحبانيين، أو أن تدخلاً حاسماً من صبري الشريف الذي كان مستشاراً مسموع الكلمة لدى الرحبانيين، حوّل المشروع إلى مشروع شاهيني ولا سيما بعدما دخل صهر شاهين المنتج أنطوان خوري على خط المشروع وتأكد أن يوسف شاهين يود السفر إلى بيروت والعمل فيها لفترة. إذاً، مهما كانت الخلفيات، يبقى أن نهاية العام 1964، شهدت مجيء يوسف شاهين إلى بيروت ومن ثم ولادة هذا الفيلم. ومع هذا، من قبل دخول شاهين، #فيروز أو حتى برنار فاريل إلى مشروع “بياع الخواتم”، كان المشروع مكتملاً. وكان في الأصل مسرحية استعراضية لفيروز والرحبانيين، قدمت على الخشبات مواسم طويلة
يوسف شاهين (غيتي)
هوليوود ومحلية التراث
وشاهين كان يعرف المسرحية بالطبع، لذلك لم يتردد طويلاً قبل أن يقبل، وهو مدرك سلفاً أن فرصة ستتاح له هناك كي يعود، بعد غياب، إلى تجاربه المحببة إليه في مجال تجديد لغته السينمائية. وهكذا، من طريق الكاميرا واللون فقط، تمكن شاهين من أن يجعل “بياع الخواتم” فيلماً شاهينياً، هو الذي من ناحية الموضوع لم يكن ثمة، طبعاً، ما قد يغريه في حكاية راجح وريما والمختار والكذبة البيضاء ورقص الدبكة في الضيعة اللبنانية، خصوصاً أنه لم يكن يمتلك أن يغير في هذا كله شيئاً. كان ما أغراه إذاً، في مكان آخر: رفض أن تصور مشاهد الفيلم في قرية حقيقية – فهو كان يريد الاحتفاظ بالطابعين المسرحي والشاعري للعمل من دون أي إيهام ساذج بالحقيقة. ولقد نجح في هذا إلى حد كبير، إلى حد جعل الفيلم واحداً من أفضل الكوميديات الموسيقية التي أنتجتها السينما العربية في تاريخها، وهو أمر لا ينبغي الاستهانة به، خصوصاً أن شاهين عرف إضافة إلى ذلك كله كيف يبقى هوليوودياً – هل كان يمكنه ألا يكون كذلك؟ – في الوقت الذي حافظ فيه على محلية التراث واللغة، واضعاً الكاميرا في خدمة هذا كله. وأولاً وأخيراً بالطبع، في خدمة ذلك النص الرحباني الذي ينتمي أكثر من أي عمل آخر للرحبانيين إلى فن الأوبريت. والحقيقة أن عاصي ومنصور الرحباني كانا في عز عطائهما حين التقطا هذا الموضوع بـ”سذاجته السياسية” التي سوف يناقشها المفكر غسان سلامة بعمق في أطروحته للدكتوراه حول المسرح اللبناني وتوجهاته الأيديولوجية، وفي تحليل يمكن القول إنه أدهش الرحبانيين أنفسهما، إذ لم يكن ليخطر في بالهما “أن ما يكتبانه ويلحنانه يمكن أن يحمل كل تلك المعاني!” وتحديداً بحسب ما سوف يقول منصور الرحباني لاحقاً لكاتب هذه السطور في جلسة نقاش بينهما. غير أن هذا أمر ليس هنا مكان العودة إليه بالطبع. فما يهمنا هنا من “بياع الخواتم” هو تلك الأبعاد الجمالية لحناً وموسيقى وحراكاً مسرحياً التي جعلت هذا العمل يبدو وكأنه يلخص إبداع الأخوين رحباني بشكل عام. بالتالي يمكننا أن نفترض أنهما وصلا فيها إلى ذروة تألقهما الفني. ولعل هذا ما شجع شاهين على التصدي للعمل سينمائياً، بل حتى الإصرار على “أفلمة” “بياع الخواتم” من دون غيرها حين عرض عليه صاحبا العمل أن يختار أوبريت غيرها من إنتاجهما للأفلمة إذا أراد
فرض ثقافة الجبل
المهم، ولد هذا العمل من رحم النجاحات الكبرى التي كان عاصي ومنصور الرحباني قد واصلا تحقيقها منذ نهايات سنوات الخمسين لكن دائماً في إطار إعطاء الفولكلور الجبلي اللبناني أوسمة فخره، والسعي لفرضه بالتدريج على الذهنية اللبنانية من ناحية استخدام المحكية الجبلية اللبنانية كما من ناحية استلهام الموسيقى الشعبية ولكن في توزيع أوركسترالي بالغ الجدة والحداثة سرعان ما سيصبح هو المعيار الذي لا يمكن لأي نتاج مستقبلي لبناني، ثم لاحقاً خارج لبنان في الجوار العربي أيضاً، أن يكون من دونه. والحال أن هذا ينطبق حتى على الإطار الحدثي المفصلي هنا بصورة مباشرة كما سينطبق على المواضيع التالية التي سيمسرحها الرحبانيان لاحقاً، بصورة رمزية حين سيحتاج التطور السياسي في لبنان لذلك، ولا سيما بدءاً من “جبال الصوان”. بيد أننا في “بياع الخواتم” كنا لا نزال قادرين على، أو راغبين في، تصديق “براءة” المسرح الرحباني على رغم ملاحظات غسان سلامة الذكية. ومع هذا لا بد أن نضيف أنها إنما كانت براءة ماكرة على رغم كل شيء!
أكاذيب مختار
ولنذكّر بالحكاية حتى وإن كنا نعرف أن ما من أحد يجهلها: هي حكاية المختار في ضيعة هادئة وديعة يعيش أهلها في ألفة كالعادة، ويسيطر عليها مختارها بالتفاهم كالعادة، وليس ثمة مجال لأن يتطفل إليها غريب يفسد الود الذي يجمع كل الطبقات والفئات فيها على الألفة والمحبة كالعادة. ولكن المختار سيكتشف ربما ذات يوم أن بقاء الأمور على تلك الحال سوف ينفي الحاجة إلى وجوده. فما العمل؟ لا بد من اختراع خطر يهدد وحدة القرية وأمنها ومقارعة ذلك الخطر لنقل حكايات يومية إلى السكان يتناقلونها بدورهم في عشياتهم فتعزز مكانته وتؤبد حاجتهم إليه جاعلة منه بطلاً. وهكذا يخترع المختار شخصية “راجح”، ذلك الغريب الوهمي الذي سرعان ما بات السكان يخشونه لولا أن المختار يطمئنهم إلى تصديه له ومنعه من الدنو من الضيعة. لكن بنت أخت المختار (فيروز طبعاً) تشكك في حكايات خالها، لكن الأخطر من هذا هو أن الحكايات تروق لأشرار الضيعة، وعلى الأقل لاثنين منهم، فضلو وعيد، اللذين يفهمان ما يحرك المختار فيبدآن باقتراف سرقات وشرور صغيرة سرعان ما تنسب إلى راجح الوهمي. ولكن الذي يحدث هو أن راجح حقيقياً سيظهر في تلك اللحظة بالذات. يجفل أهل القرية ويصعق المختار. ولكن فقط ريثما يتيقن الجميع من أن هذا الراجح ليس شريراً ولا هو بالرجل الخطير. هو وحسب، “بياع خواتم” يريد أن يقصد الضيعة لبيع بضاعته للخطّاب في موسم العرس المقبل
جديد ولو بعد 60 عاماً
تنكشف أكذوبة المختار بالطبع كما تنكشف جرائم أشرار القرية، كما ينكشف أن لا غريب هناك في الأفق فيسود التسامح من جديد، إذ إن راجح هو من الأهل والأقربين. يلام المختار لكنه يشرح نظريته ويبقى في مكانه ومكانته، وهذا كله يدور عبر كم لا بأس به من أغنيات فردية (لفيروز وأختها هدى) رائعة ستعيش طويلاً، وجماعية لكورس الرجال والنساء ومجموعة مدهشة من الرقصات ناهيك عن المشاهد الكوميدية التي تجمع أحياناً بين فيلمون وهبي ومنصور الرحباني نفسه أحياناً، وبين الشاويش ورجاله أحياناً أخرى. وكل هذا على ضوء الابتكارات الموسيقية الرحبانية التي أحدثت تجديداً هائلاً ليس في أدائهما الفني وحسب، بل في الموسيقى الاستعراضية المشرقية بصورة عامة. والحقيقة أن هذا كله قد غطى على العديد من المعاني التي يمكن لتحليل عميق كالذي فعله غسان سلامة أن يكشف عن مجمل الأفكار التي مررها الرحبانيان هنا، حول السلطة والآخر والجبل وما إلى ذلك. ولا شك أنها أمور قد لا تهم كثيراً أمام جمال هذا العمل الفني الرائع والذي تبقى له حداثته الآسرة حتى اليوم بعد مرور نحو ستين عاماً على عرضه الأول