شادية الأتاسي
مثل كل صباح
استيقظت مبكرة، بدأ النهار
وضعت ركوة القهوة على النار،أعدت فنجانين تعلم مسبقاً، أنها لن تشرب أحدهما، توقفت عن هذه العادة منذ زمن. أعطت لزوجها المسترخي على الأريكة،يسمع أخبار الصباح، الفنجان الآخر. غمغم وهو يتناول قهوته وينظر إليها، نظرته الغائمة التي لا يراها بها
“أخبار بائسة وقهوة باردة”
تظاهرت أنها لم تسمع ما قاله، لم تغضب، فقط فكرت بحياد تام، ما الذي يجبرها على قبول هذه الحياة
همست لنفسها
أن أفقد غضبي، يعني أنني انكسرت، وأغلقت الى الأبد المسافة التي قطعتها عبر الزمن لأعود إلى ما كنته يوما
أضافت في حزن بزغ، ثم ما لبث أن انطفأ سريعا، ما أصعبه من فقد
أسرعت إلى المطبخ، أخرجت كيس الخضار الذي قطعته في المساء، من البراد، وضعت قليلا من اللحم و البصل في الطنجرة، أهالت الخضار المقطعة فوقهم، أضافت القليل من الماء، أحكمت الغطاء، وخففت النار. وتركتهم يستوون على مهل من أجل وجبة الغذاء
أعدت الجبنة واللبنة والزعتر لفطور الصباح، لم تنس الشاي. هيأت سندوتشات الأولاد، وضعتها في أكياس نظيفة، وبين هذا وذاك كانت ترتب ما تناثر، من فوضى المساء، وتعيده إلى مكانه، ومع كل حركة تفتح النافذة، لتتأكد فيما إذا كان ثمة قصف هناك، ومن أي جهة يأتي. مع أنها تعرف أنه قد يأتي من أي جهة وعلى حين غرة
غسلت وجهها ويديها، سرّحت شعرها، التقت لبرهة بعينيها في المرآة، وجه مُطفأ وعينان غائمتان،. لم يعد هذا مهماً. كان الوقت هو ما يهمها الآن، الوقت الذي يسمح لها، أن تجهز نفسها وطفليها للخروج. تضع ابنتها في المدرسة، والصبي في عهدة الأم،لتصل إلى عملها في الوقت المحدد
تناهى لها صوت زوجها يتساءل ساخراً، وهو ما يزال في مكانه مسترخيا، تحت شمس الصباح الخجولة
“اوف، قهوة باردة، وزوجة باردة، قرف كله قرف”
حملت الصبي، وأمسكت بيد البنت، فتحت الباب وانطلقت في طريقها هائمة. لم يفلح الهواء الطري، ولا انبثاق النهار الجميل، في تهدئة أفكارها
عبرت الشارع المزدحم، الصباح محمل بالقلق، الفوضى مجنونة،. الخوف سؤال على وجه الجميع. تغيرت الأمور، فقدت الحياة طبيعتها، ثمة وجوه غاضبة تعبر من هناك، تريد شيئا مختلفاً عن عذوبة الحياة ورخاوتها
مع أن حتمية الأمور تقول، التغيير قادم لامحالة
وصلت متأخرة، انتظرت بقلق دخول ابنتها مع المشرفة، تفرست بلهفة في وجوه من حولها، زاغت عيناها، خيل إليها للحظة، أن هناك عيوناً تراقبها، وربما أحدًا ما، ينتظر ذهابها لينقض ويختطف ابنتها
حوادث الخطف الأخيرة، أثارت رعب الجميع، والخوف أصبح رفيقاً ثقيلا، يلتهم طمأنينة أصبحت بعيدة المنال
الاسطورة
أسرعت وهي تكاد تجري الى بيت والدتها، أعطتها الصبي وهي تلهث، وتحاول أن تجمع أنفاسها، دون أن تتفوه بكلمة، ومضت مسرعة، متجاهلة نظرات الأم القلقة وتوصياتها اليومية
“انتبهي، بنتي الله يرضى عليك، إلى كل ماحولك، لاتتكلمي مع أحد، لا تجادلي أحد، خاصة عند الحواجز”
ودت للحظات أن تتريث، أن تضع رأسها على كتف أمها، وتبكي طويلا، ولكنها لم تفعل
أشارت إلى الحافلة القادمة، وصعدت إليها
وضعت نفسها على أول مقعد، وهي تجفف عرقها و تسترجع أنفاسها و ترتب ثيابها. كانت الحافلة العجوز تئن تحت وطأة الزحام كالعادة . وجوه،متعبة ،قلقة، غاضبة، لامبالية. روائح خليطة، من بقايا مطبخ وعرق وعطر رخيص
ومع ذلك بدأ نسيم الصباح العاري المتسرب برخاوة من الشباك المفتوح، وصوت فيروز الصباحي يهدهد بعضا من تعبها
لستُ أنا.. قصة قصيرة
استرخت قليلا
مشوار الحافلة الذي أصبح يستغرق أكثر من الساعة يوميا إلى عملها بسبب الحواجز العديدة،التي تقطع المدينة، كان هو الوقت الأجمل في يومها الدائم التعب. رغم الزحام والغضب، والضجيج ، وجو الحرب الكئيب، والروائح الكريهة و الوجوه المتعبة، إلا أنها اعتادت أن تجعل منه وقتها هي ، مساحتها البخيلة من الزمن لتكون هي، تترك لإرادتها أن تستجيب لإغواء هذا الوقت المستقطع، تذهب معه حيث يشاء،تترك لروحها المتعبة العنان،إلى حيث يتقاطع وجع القلب مع طقوس أغنية مجروحة بالحنين، تنساب دموعها دون قيد، فتستعذب ملوحتها وتلامس قلبها ، تستعير حياة وأحداث افتراضية تعلم إنها ليست لها، ولكنها تعلم أنها تشبهها، وتريدها
اجتاحها صوت فيروز من الأعماق، كانت أغنية حب، في هذه الحافلة الفقيرة المكتظة. ابتسمت في سخرية،وهل هذا وقت الحب؟ مدى مكتمل من الأحاسيس اجتازها لبرهة، وجدت نفسها تبتسم،لما لا! هي أيضا أحبت، أحبت ذات يوم.. وابتسمت بمرارة لصورة الزوج المقطب، المسترخي على الأريكة طوال النهار، بلا عمل
لم يكن وقتها مقطباً، ولم يكن غاضباً
كان الحب، الورطة الجميلة، المتاهة الغامضة التي يتداخل بها الواقع بالدهشة، بفك الألغاز، بأشياء كثيرة معقدة
ما أكثر ما تغير كل شيء
لم يكونا قد انكسرا بعد
ما أكثر ماغيرتهم الحياة، عندما أدركوا أن هناك الكثير من الجهد، الكثير من الألم، سرق منهم زهوة الفرح والحلم
لم يصمدا، غادرهما الحب ،لم يطل الإقامة
وكيف لها أن تنسى، وتلك التفاصيل الصغيرة تتمطى في دهاليز الذاكرة ، تتشربك بها كلما حاولت أن تدير ظهرها لذكريات تتعربش بتأن على جدار القلب والروح ، وتأبى أن تبرحه
عشيقاتك
وكيف لها أن تنسى، وتلك التفاصيل الصغيرة تتمطى في دهاليز الذاكرة ، تتشربك بها كلما حاولت أن تدير ظهرها لذكريات تتعربش بتأن على جدار القلب والروح ، وتأبى أن تبرحه
أرادت يوماً أن يكون لها مجازها الواسع من الحياة،أرادته مريحا مضيئا، فيض طافح بالحماس كان يرتعش في قلبها ، كانت تنتمي بقوة للحياة، يداهمها الذعر أن لاتكون في قلبها،ألا تمنح مكانا بأبعاد كاملة بما يكفي
لم يكن لها ما أرادته، ماأكثر ما تغير كل شيء
وصلت متأخرة كما في كل مرة إلى عملها، واجهها مديرها، بوجه غاضب،منتفخ كبالون،وعينين جاحظتين، وبخها علنا أمام الجميع،عاقبها واقتطع من راتبها الضئيل أصلاً، حاولت أن تشرح له، البيت والمدرسة والزوج الكسول، والحواجز،والأحلام الميتة، لكنه شأنه شأن الجميع لايريد أن يسمع أو يفهم، لم يكتف بل وجه لها إنذارا بالفصل، مهدداً أنها المرة الأخيرة الذي يتسامح فيها
يتسامح! يا لهذا الذل
كانت تعيسة، تعيسة جداً،إلى حد وجدت نفسها تقول له باستهتار
أنت جبان
أعماه الغضب، لم يدعها تكمل، أشار إليها بإصبعه،ونبس باحتقار
أنت مطرودة
حريق اشتعل في دمها،غضب قديم استيقظ داخلها، أوجعتها حنجرتها، غشت الدموع بصرها، من دون مقدمات،ولا سابق تصميم،رغبة جامحة تلبستها، بدأت تحكي وتصرخ، تدفق الكلام حاراً، من نبع فاض مخزونه فثار، لم تعرف ماقالته، قالت أشياء كثيرة مخيفة، سبّت وشتمت وأوغلت، لم تغفل أحداً، وفي هذه اللحظات، لم يكن صوتها المبحوح من هزّ فضاء المبنى الكبير،كان وحشها الصغير، تمردها القديم قد استيقظ. واجهتها وجوه الزملاء المدهوشة، وجه المدير المذعور
لم تكف، أصابها مس من الجنون
اقتادتها أيدي إلى تحقيق مؤلم و سريع، ثم أُطلق سراحها بداعي الجنون
في المساء، حين خيمت العتمة، وضعت رأسها على الوسادة، بكت قليلاً، ثم استغرقت في النوم
في انتظار يوم جديد
نشرت في القدس العربي
تعليقات 1