
الأمر التقليدي، هو أن يتم دمج ازمنة متعددة بالنص الأدبي للتحرك بالحدث بين الماضي والحاضر لنصنع تكاملا زمنيا كاشفا عن مشهد بانورامي للحدث.
أما ما يعتبر غير تقليدي، هو دمج أزمنة من عوالم مختلفة، ليصنع الكاتب واقعة انصهار يذوب فيها الوقت في نفس اللحظة الزمنية نتيجة استخدام زمن يخص الجسد وزمن يخص الروح، في لحظة احتضار لم تكتمل لبطل القصة.
وتبدأ القصة بخطوات رجل هرم جوار نهر النيل يتسامر مع النهر في حب ويشاركه افراحه وانكساراته فتقع عينيه على ملامح شخص يشبه قائده القديم الصاغ بكريبقارب شراعي فيتذكر أيام خدمته في البحرية على ضفاف هذا النهر فينادى عليه ويحاول أن يتجه نحوه فتتعثر قدمه ليسقط في النيل فاقدا الوعي. لتبدأ رحلة الروح التي تشبه لحظه إسقاط نجمي أو احتضار مؤقت تنفصل الروح فيه عن الجسد،فينتشله من النهر الذي سقط فيه توا أيادي رجال من عصر مصرايم ابن حام ابن نوح، ويعرف انهم في الطريق الى أعالي النيل، لتعبيد وهندسة مجرى النهر للحفاظ على مياهه المقدسة لينتفع بها الناس، وهم رجال أحبو النهر وخدموه ودافعوا عنه طوال حياتهم، فكانت جنة الخلد هي نهاية طريقهم واستحقاقهم الطبيعي، مقابل سعيهم للحفاظ على نهر النيل والدفاع عنه، فكأن روح البطل وجدت الصحبة التي تنتمى اليها وتحركت معا لتستكمل رسالتها في محبة نهر النيل، ورغم أن الرحلة استغرقت أيام وليالي، إلا ان الزمن الحقيقي في الواقع هو ثوان معدودة،تتمثل في لحظة سقوطه في الماء وفقدانه للوعى, لتخرج الروح في رحلتها الزماكانية (خارج حدود الزمان والمكان) مع المصريين الأوائل الذين احبو النيل، ولكن اثناء تسلق البطل (بوصفه روح ) لجبل القمر متجها مع رفاقه الى جنة الخلد تتعثر قدمهليسقط في النيل، لتنتشله يد ابن الرائد بكرى وينعشه ليعود للحياة وتعود الروح للجسد، فيدرك القارئ ان كل الأحداث التي عاشها البطل في مصر القديمة بين المدافعين القدماء عن نهر النيل، واساطير الفيضان والبركة حابى وخنوم وجبل القمر والنجم الأسطع سيريوس، كلها انحصرت في زمن صفري هو زمن الروح، بين لحظة سقوطه في النيل ولحظة إنقاذه في ثوان معدودة، فخلال هذه الفترة المحدودة جدا ارتحلت الروح الى عالم آخر، في رحلة لم تكتمل ولو اكتملت، ووصل البطل الى جنة الخلد مع رفاقه الراحلين، معناها ان موته اكتمل، وانفصلت الروح تماما عن الحياه،لكن الكاتب أراد للبطل ان يستمتع فقط بجمال الرحلة ، وذلك كمكافأة و تقديرا له على احساسه الراقي تجاه نهر النيل ومجهوده في الدفاع عنه لسنوات طويلة.
وقد ذكر بعض العلماء أن الأحلام تحدث في ثوانٍ قليلة، ومع ذلك يشعر النائم انه عاش فيها أيام وليالي وهذا هو الفارق بين زمن الروح والجسد، فالثواني في زمن الروح قد تكون أيام في زمن الجسد المادي، والأيام قد تكون آلاف السنوات لأن زمن الروح خارج نطاق الزمن الشمسي الذي نعيشه. لذلك قد تلتقي أرواح الأموات والأحياء في المنام وتتحاور وتشعر بالحب والحنين بينهم، فالروح لها القدرة على التحرك خارج حيز الزمان والمكان ولقاء الذين رحلوا من عشرات أو آلاف السنين.

وقد نجح الكاتب في صناعة رحلة روحانية مدهشة،بين لحظات سقوط البطل في الماء، وإنقاذه بواسطة ابن قائده القديم، الذي رآه يتعثر ويسقط بالنيل فحضر مسرعا اليه، لنجد انه على مستوى الواقع البطل سقط في النيل مرة واحدة، ثم تم إنقاذه خلال ثوان، أما الإنقاذ الأول والسقوط الثاني،فكان أشبه لبوابة نجمية انفتحت لانطلاق الروح في رحلتها النورانية، والتي هي أجمل مساحة بالنص،ثم عودتها بمجرد انقاذ البطل من الغرق على مستوى الواقع.
وهذ التداخل الزمنى، نتج عنه مساحات من الحيرة والدهشة في وجدان القارئ،وبعض ملامح من الغموض الغير معتم، وكلها أدوات أضافت الى الفكرة تاج من الجمال والهيبة، وجعلت للنص مذاق مختلف يأخذك كقارئ في عالم غير تقليدي،
يصعب وصفه بالخيال، فنحن أمام واقع من عالم آخر، اندمج في لحظة زمنية نادرهمع واقع الحياة العادية، لذلك كان هناك تحفظ على عنوان القصة (زاده الخيال) فبدا انه عنوان مسرحي، لم يعبّر عن فكرة القصة بشكل جيد.
كما ظهر جليا هذا الحس المسرحي للكاتب، في تغيّر المشهد بحرفيه من قارب شراعي حديث بنهر النيل على متنه جنود للبحرية بزيهم المعروف، الى قارب بدائي، صُنع من البوص والحبال، وجنود يرتدون المئزر ليستروا نصفهم السفلى، فالمكان واحد هو نهر النيل ولكن في عصر مختلف وهو عصر المصريين الأوائل، لعل هذا الحس المسرحي أفاد الكاتب في صناعة المشهد وتغيره بهذه السرعة، كأن يبدل الديكور على المسرح بكل بساطة، وكأن المسرح هو نهر النيل ذاته، والواقع أن صناعة المشهد له بطولة مركزية في نجاح هذه الفكرة المختلفة جدا.
وفى النهاية (زاده الخيال) يمثل عنوان غير مميز، لنص رائع وشديد التميّز، يخطف قلب القارئ وعقله، ويأخذه في رحلة نورانية مع عشاق النيل على مر التاريخ.
بقلم /ياسر عبد الرحمن
19/4/2025