نزار حنا الديراني
ضمن سلسلة اصدارات منتدى شواطئ الأدب – بشامون – 2023 بيروت صدر للأديب علي أبي رعد مجموعته النصية ( وطني هبةُ ريح ونطير) . قراءة أولية للعنوان ستجده يتكون من محورين محور الوطن ومحور الهجرة، هذين المحورين المتعاكسين يحملان بين طياتهما صراع ما بين التجذر والانفلات ويكون بهذا قد اختزل الشاعر علي أبي رعد المتن من خلال عتبته هذه كي يضيء الدرب للغوص في أعماق النص ومتعرجاته
وكما في مجموعته الاولى (ابحار على متن الكلمات) وهكذا في مجموعته الثانية (وطني هبةُ ريح ونطير) الشاعر يكشف عن القلق الذي رافقه طويلاً وهو يتأمل مستقبل وطنه وشعبه، لذا جاءت عتبته (العنوان) للكشف عن ما يمكن أنْ يتوافر عليه الكاتب من قلق وجرأة في التعرّف على مايجري في الوطن، اذ جعل كلماته تمور في أسفاره البعيدة، والتي هي مجموعة من التناصات اليومية التي واكبها الأديب”علي أبي رعد” فتراءت له على شكل محورين متنافرين ومتضادين، محور مفهوم الوطن والوطنية ومحور الآلام التي يتركها سوط قادة الوطن في كيان المواطن كي يفكر بالتخلي عن هذه الهبة التي منحها له الله (الوطن وشعور الانتماء) مما أفضت بنا إلى الاندفاع للخوض فيما تحمله نصوص مجموعته الثانية والتي هي عبارة عن كلمات تشبه الصواريخ العابرة للقارات، حيث تخترق الهيكل لتستقر في القلب والفكير مجسدة لدى القارئ بأن ما يمور في الأعماق يتجسد مثل البصمة فيكشف عن معناه الحقيقي . فبالرغم من القلق الذي رافقه طويلاً، جعل كلماته تمور في أسفاره البعيدة، إلا أن الفرق بين المجموعتين في الثانية ركز الشاعر كثيرا على العمق الفلسفي والسياسي مبتعداً بعض الشئ عن الشعرية الذي اتكأ عليها في مجموعته الآولى بعد أن تيقن إن القارئ وبسبب تراكمات مخلفات الصراع وكمية ما استنشقه من هواء مخدر جعل المواطن مخدرا وكما يقول
كم مؤلم أن تكون بنصف موتك
ويقنعونك
بأنك ما زلت على قيد الحياة
مما دفع الشاعر التخلي بعض الشئ عن الشعرية ليقدم للقارئ طبقته الدسمة بطريقة أكثر سلسة وسهلة لتقريب وجهة نظره الى القارئ
ففي المجموعة الاولى كان الشاعر يتكئ على فضاء من الاستعارات التي تصنع المشهد الشعري وفي الثانية يرسم الصورة بشكلها الواقعي ليوجه صواريخه مباشرة الى الهدف
سأرمي بأحلامي
على الأرصفة تحت أقدام الليل
أتسكع في شوارع المنفى
وأعلق ضجري على جدار الوقت
تاركاً أشرعة القلق
في مهب الريح
وأمضي بقطار الفراغ
الى عتمة اللامكان
هناك في البعيد
حيث يموت الزمان وتتلاشى الصور
نراه بعد تجربة شاقة من العمل على أرض الواقع في الساحة الثقافية والاجتماعية وربما السياسية ايضا، يهجس بما اختزنته تجربته عبر رؤية وهو ينتخب زوايا النظر للمَشاهد التي تخصّه وشعبه، ويقارن بين ما كان الواقع في تجربته الشعرية الاولى والثانية لذا جاءت نصوصه وكأنها مرايا، تعكس لمرآى أناه المنطوية، القلقة، والباحثة عن المُضمر والغائب وغير الآمن وهو يقول
عندما ننام تسافر أطيافنا
تشارك الآخرين أحلامهم
وتقول لهم أشياء
لا نجرؤ نحن على البوح بها
نصوص كهذه تعكس بشدة ما تحمله الذات الشاعرة في نصوصها لتبوح لنا مدى القدرة على الاستقصائية عن الذات، ومدى القدرة على النحت فوق أسطح مخيلة القارئ للتخفيف من شدَّةِ غلواء الصراع الداخلي الذي يعيشه الشاعر والقارئ، والتقليل من آثار جيشانِ إرهاصاته النفسيَّة واحتدام تداعياته الشعورية التي يواجهها في حياته الشخصية سواءٌ أكانت تتعلّق بواقعه الذاتي الاجتماعي أم بواقعه البيئي الجمعي – الراهن والحاضر. إنها تعبير عن الانفعالات والمشاعر، أو لنقل إنها جواز سفر تنقل بمقتضاها الأحاسيس والصراع الداخلي، الغامض والمشوش إلى عالم خارجي واضح جلي، وهذا ما يتجسده نص كهذا:
قد لا تكون الريح مؤاتية
لكن علينا بالإبحار
ما دامت كل الجهات مقصدنا
من هنا يتيقن الشاعر، لم يبقى لديه وشريحة كبيرة من شعبه من سبيل إلا الطيران والرحيل الى عالم آخر وهذا ما عكسه المحور الثاني من العنونة (… ونطير)
في مجموعته هذه تيقن الشاعر بأنه ليس بحاجة الى الاستعارات والرموز لذا سار على طريقة الشاعر الامريكي والت وايتمان في مجموعته (أوراق العشب) جاهداً على تفعيل حواسه كلها، كاشفاً عن حضور الذات الفاعلة لعكس الصورة الحقيقة للواقع بصورة مرئية واضحة كي يدغدغ مشاعر القارئ وخصوصا الطبقة الحاكمة والمؤثرة من خلال الصور التي يستحضرها ويحولها إلى عناصر فاعلة تذوب في جسد النص بعد أن تيقن أن الكتابة هي تفجير لأوجاع / أوضاع / مخاضات / الناس في الحالة الراهنة وفق شروطها المناخية فيقول
لستُ مهزوماً كي أُنكس رايتي
ولست منتصراً كي أرفع شارة النصر
أنا الآن
كلما مُتُ أعود وأجمع أشلائي
نصوص حسية كهذه تتشكل داخل بنية يومية في أوطاننا تراها متوهجة بتكثيف جملها المقتصدة في ألفاظها والمشحونة بتموجات الذات المهمومة باعتماد الكثافة اللفظية، حيث يستأصل الأشياء من بيئتها ليعكسها على شكل صواريخ عابرة محملة بهمومه وانكساراته وصلابته للتحدي أمام الواقع وهي تخترق الوجدان كونها كاشفاً ضوئياً بصوته المحكي عن صدى تجلِّياته التعبيرية المؤثِّرة باستنطاقها الصوري والحركي التي تجذبه إليها وتستأثر بثقافة اهتمامه الآسر في تواصله معها
دائماً نجد الشاعر يقدم لنا مشاهد تضادية تُسهم في تنمية المسارات الإيحائية وهي تسبح في دلالاتها المباشرة حيث تنساب صوره بشكل سلس من أجل كشف الرؤيا والمضامين الموحية ويضع صور مشاهد الواقع التصويرية على حقيقتها، دون رتوش أو تجميل كقوله
يمشون دونك خفافاً
وكلما حاولت لمسهم تجد نفسك في السراب
ما أصعب أن تبقى معلقا في الفراغ
لا الأرض تحتضنك وليس بمقدورك أن تطال السماء
إن ما تحمله نصوصه من شحنات توترية تكون أساسها محور الذات الشاعرة، والتي لها القدرة على اصطياد الصور من ذوات العلاقة الوطيدة بحياته اليومية، خصوصاً عندما يتعلق الامر بمصير شعبه حيث تتولد الرؤى، وتنبثق المواقف، فكانت وقائع (مَرايانا) مرآةً عاكسةً لِمَا في الرُّوح الذاتية الشاعرة، الظاهرة المتجلِّية والخفيَّة المُضمرة، إنها مرآة لحال واقعنا في الماضي والحاضر وربما المستقبل
رصده لبعض الظواهر السلبية في واقعه عكست ملامح القصيد بعمق والمتجسدة في كينونته الناشطة في الحراك الإنساني / الثقافي / الفكري، لتعكس لنا تحورات الأنا داخل تمخضَّات الروح، فالذات الشاعرة هنا تتحرك بتلقائية، وتضع يدها على الجرح بجرأة كبيرة، وتحدد ببساطة كيفية سريان هذا التيار
ستبدو لنا عيناته هذه هي التي ترصد المكان أو الحدث، وسيترجم لنا الحراك الواقع على مرآة الحقيقة وفق معايير العين الشاعرة والذات المفكرة التي كتبت نصوصها إزاء تلقائية اللحظة الشعرية .
تعالي نلتحق بالثورة
ونرجئ فكرة النصر للصدفة
أو إلى زمن يكون
البحر أكثر إصغاءً
والريح أكثر عطفاً
والثلج أكثر دفئاً
والموت أقل انشغالاً عنا
الشاعر علي يستمد خاماته الشعرية، من معطيات الواقع وافرازاته الدالة، في عمق الاحساس الصادق ليزيل الغطاء عن صيرورة الواقع بظواهره المحسوسة واللامحسوسة، فحال اصطياده للحدث يقدح ذهنه بشحنات من التفكير والتأمل وهذا مرتبط بما تقدّمه مخيلته من قدرات تصويريّة تساعده في نقل تجربته وإحساسه إلى الآخر . كقوله
أيها العابرون فوق جثثنا
ألا تتعبون من طحن عظامنا
أرغفة لجوعكم الأبدي
وفي مكان آخر يقول
وأنتم توقدون عظامنا
لطهي ولائم جشعكم
ألا تتعبون من بيع جثثنا
في أسواق مصالح الدول؟
بأثمان لا تكفي لحفر القبور
وختاما نقول
أن كل نص من نصوص الشاعر علي أبي رعد الدسمة تلتحم فضاءاتها الرؤيوية بتشكيلاتها البنائية، وفق ما تضمره من أبعاد دلالية واسعة، بل مترامية الأطراف، فكل تجل تشكيلي للداخل النصي ومكنوناته، لا يعدو إلا أن يكون مدار التجربة الداخلية والخارجية لذاته الشاعرة فهو يخوض في تلك المناطق العميقة من الذات في تقاطعاتها وتوازياتها وتماساتها مع العالم الخارجي والداخلي من خلال المحورين الداخلي (الوطن) والخارجي (الهجرة) عن طريق طاقة التجريب التي تتوجه نحو التشكيل لما لهُ من ملكة شعرية فائقة في الرصد والتقاط من اليومي المعاصر استنباطا، استقراءاً للأحداث التي ستحصل . فألف تحية لانجازه الجميل هذا وما يقدمه دوما من نصوص ناضجة لها قدرة التشظي والاختراق
غرفة 19
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل