كان يجلس على الأريكة ينظر إلى الشاي الأحمر المغليِّ ينسكب رقراقًا ما بين داخل الكوب أحيانًا وأطراف الصينية أحيانًا وَأطراف أصابعه أحيانًا أخرى، دون أن يحرك ساكِنًا وَهو ينظر باشتياقٍ ناحية باب القصر ليرى سقوط الشمس عمودية فوق رأس طبيب العلاج الطبيعي الذي كان يأتيه كل ثلاثة أيام ليجريَ له بعض التدريبات ليعود إلى نشاطه وصوته الذي كان يجلجلُ في جنبات الدار وَيَدُلَّ رجال الشرطة على من كان السبب وراء إصابته بالشلل الرباعي وَفقدانه للنطق وَموت زوجته وفقدان ابنتيه لعذريتيهما ليلة مولد ابنه الذي لم يُعثرْ له على أثر عقب وقوع هذا الحادث المروع الذي هزَّ أركان القرية التي كانت تَغُطُّ قبل هذا في نعيم مُقيم لدرجة أنهم كانوا يسمونها كفر الخير.
وَيبدأ الطبيب في مرحلة العلاج الأخيرة والتي لم تؤت المراحل السابقة عليها أية ثمار وكانت ابنتاه تَقفان عن بُعد دون أن تنظرا إلى ما كان يفعله الطبيب والذي لم يكن يختلف كثيرًا عما كان يفعله في كل مرة أتى فيها إليه ولكن كانت نظراتهما وهما في الشرفة تنظران نحو تلك البقعة المظلمة في جوار الساقية والتي كانت تتعارض في البداية مع كل ما كان حولها من اللون الأخضر الذي كان يبسط نفوذه على تلكم الرقعة الزراعية التي كانت تتجاوز مساحتها المائة فدانٍ وذلك قبل أن تصير امتدادًا طبيعيًا ومن كل اتجاه لتلكم البقعة الحالكة السواد حتى في حال سقوط الشمس عليها عموديًّا وكان لا يجرؤ أحدٌ حتى على التسلل خلسةً إليها سوى الشيخ تغيان وَمُريديه …
انصرف الطبيب بعد أن أنهى عملية التدريب الطويلة والمضنية دون أدنى فائدة كالعادة وَأخبر البنتين كتابةً أنَّهُ لا طائل على الإطلاق من الاستمرار في العلاج فقد صار أبوهما مَيِّتًا إكلينيكيًّا وَأنَّ عليهما أن يُرسلا في طلب الشيخ تَغيان لأن الأمر قد صار خارج حدود العلم الدنيوي المحدود على حد قوله، وَعلى الفور أرسلت الابنتان وَهُما في غاية الانشراح رسالة مكتوبة في قدم واحدة من الحمام الزاجل الذي كان متوافرًا بكثرة فوق سطح قصرهما والذي كان عامرًا بشتى أنواع الحيوانات الداجنة وَالأليفة وَلمْ يعدْ به الآن غير ذلكم الحمام الأسود الزاجل الذي كان جميعهُ مسخرًا لخدمة الشيخ تَغيان وَوَسيلة التواصل بين أهل الكفر وَبينهُ لا سيما وَأنَّ الأرض التي كانت تعج به وبتابعيه أشبه بالأرض الحرام التي لا يدخلها أحد إلا إذا منحه الشيخ كلمة السر وإلا احترق بنار حرَّاسها اللامرئيين…
وَذكَرت ياسمين في رسالتها أنَّ أباها شاكر في حاجةٍ ماسَّةٍ إليه بعدما فشلت كل محاولات الأطباء في إعادته لما كان عليه وَعلى الفور لَبَّى الشَّيخُ النِّداء وَذهبَ في ليلة من ليالي الشتاء القارسة إلى القصر ليجدَ شاكر على الأريكة جُثَّةً هامدة في فناء الحديقة كما اعتاد ابنتاه أن يضعاه منذ أن حدث ما حدث وصار القصر بكل ما فيه برجًا للحمام الزاجل وَأخذ يتمتمُ حول أذنيه بتمتمات لم يفهمها أحدٌ من سامعي حديثه خلف الأشجار اليابسة وأعلاها وَهُم مَن دَعتهم أزهار، الابنة الصُّغرى ، ليشهدوا آياتٍ لهم من معجزات الشيخ وَكان هذا عبر رسالة روتينية اعتاد أن يرسلها الأخير لهؤلاء ليشهدوا علنًا كراماته وَذلك بعد أن اصطادتْ واحدًا من الزواجل خاصته وَبذات الحجر الذي كانت قد أُجبرتْ على وَضعهِ في فم أمها بعد مولد أخيها الأصغر منتصر والذي تَنبَّأَ له تَغيان بالموت إن هو رَضعَ مِن لبن أمه ولو رشفةً واحدة فأمرها أبوها أن تضع بيدها الحجر في حلقها على نحو عرضي وَلا تتركه إلا وَهي قد فارقت الحياة، ففعلت ما فعلت بمعاونة أختها ياسمين التي قيدت يديها وَقدميها… كانتا تخشيان أن تفقدا الحياة مثلما فقدها أمام عينيهما وقبل مجيء أخيها المنتظر بأيام كل من كان يسكن القصر من خدم وحيوانات بعدما أخبر أبيهما الشيخُ تَغيان أنَّ ابنَهُ لن يرى النُّور إلا بقربان دماء من في القصر جميعًا وَغشاءي بكارة ابنتيه وَلسانيهما وَطِفلٍ رضيعٍ مولود حديثًا لإحدى الخادمات في القصر.
وبعدما نجحتا في الإيقاع به وَأتيا به على أعين الناس وَأيقن الجميع أنه لا حولَ له وَلا قوة اندفعوا نحوه في موجات من الغضب العارم فحاول هو التظاهر أنه أتى إليه ليجلس معه جلسة صديق مع صديقه سيما وهو من كان قد أتى به من بلاده البعيدة وهو بعد كان لم يزل طفلًا رضيعًا في خيام البربر والغجر لا يُعرفُ له أبٌ وَلا أمٌّ شأنه شأنُ أغلب بني جلدته وَكان هذا أيام ما كان شاكر معارًا في البعثة الطبية المرسلة إلى تلكم القبائل بعدما تفشت بين أهل المنطقة الأمراض وَالأوبئة… وَظنَّ هو أنه ربما يساعده في تمثيليته الهابطة تلك كوب الشاي الذي كانت قد صبته ياسمين لأبيها منذ ساعات قبيل مَجيء الطبيب وَلم يكن في حقيقته سوى سُمٍّ ناقعٍ لكوبرا سوداء كانت تعيث في القصر وَلا تنفث سمها إلا في الأواني وَالأكواب فجمعتها ياسمين وَأفرغت ما كان فيها في كوب الشاي الذي كانت قد سقت منه أباها رَشفةً واحدة فمات على الفور،
وَلمْ يلحظ الطبيب ذلك لأنه كان دَومًا والأموات سواء وَلَحقَ به فور احتسائهِ لِرشفتين منه تَغيان والذي ما أتى لَه في تلكم الليلة العاصفة ليداويَهُ، بل ليقتله جزاءً وفاقًا له على قتله لابنه الرضيع من زوجته التي كانت تعمل خادمة في القصر دون علمه لضيق ذات يده حينها وَهو من كان لا يصدقه أحد في كل هذا الكفر إلا شاكر…
إنها تلكم الزوجة القابلة التي نست وَأخذت بالخطأ الرضيع منتصر لتطعمه من لبنها ظَنًّا منها أنَّهُ كان ابنها عاصي لِما كان بينهما من فارق عمري لم يتعدَّ الأيام وَلِما كان يعتصرها من خوف رهيب لِما رأته يحدثُ في والدة الطفل من ابنتيها وما حدث لهما قبيل مَجيء أخيهما بأشهرٍ قليلة وما سبق لها أن رأت الأخير يفعله في كل من بالقصر فما كان منها إلا أن فرَّتْ نَحوَ غرفتها وَمعها من كانت تظنه ابنها فذهبَ هو في إثرها حتى لا تنبس ببنت شفة وَهو من كان لا ينوي قتلها ولكن تنبه للأمر وَحتمية أن يتخلص منها حينما رأى الطفل الرضيع بين ذراعيها وَهي ترضعه فأيقن أنه لا سبيل أمامه سوى قتلها لإنقاذ طفله وبالفعل قام بفصل رأسها عن جسدها وَكذا فعل بطفلها وَبينما كان متوجهًا ناحية الباب سمع صوت طفلٍ رضيعٍ آخرَ بدا وَكأنه كان يصرخ من الجوع في فراشه أو رُبما من الفزعبعدما استيقظ من سباته على صوت أمه وَهي تصرخ عند نحرها فذهبَ نحوه وهو يتذكر قول العرَّاف: “لا بدَّ لك أن تذبحَ طفلًا أو اثنين بعد مولدهِ ليعيشَ طفلُكَ أعوامًا مَديدة وَأمجادًا تَليدة”، وَفعلَ به نفس الذي كان قد فعله بالذي كان يصغرهُ بأيَّامٍ قلائل… و بعدها أحضرَ جَرارًا زراعيًّا حَمَّلَ فيه جُثثًا وَأشلاءً وَرؤوسَ مَن كانوا في القصر وَذهبَ بهم إلى حيث جوار الساقية وَقام بحفر حفرة عميقة دفنهم في داخلها وَأهالَ عليم التراب ليعود إلى البيت ليجدَ في انتظاره صاعقة أصابته بالشلل عامين متتالين…
وَفي الصباح توجَّه أهلُ القرية ناحية الرقعة السوداء في القرية وبالتحديد ناحية الخيمة الخاصة به لإزالة كل أثر لهذا الدَّجال فوجدوه حَيًّا فوق عرشه ينبئهم بقدومهم هذا إليه من قبل أن يأتوا وَأين كان دفنهم له بالليل وَأنَّ من وارى الثرى هو الطبيب توأمهُ الذي طالما حاول التشبه به وارتداء ما يرتديه وفعل ما يفعله ليظنه الناس هو وَلكن ما فرق بينهما كانت تلك العلامة وَهي وَشمٌ لعقرب أحمر على باطن ساعده الأيمن وَالتي وُسِمَ بها هذا الطبيب المحتال كعلامة على غضب القبيلة منه وأنه مطرود منها إلى الأبد وكشفوا عن باطن ساعده الأيمن في مدفنه فوجدوه كما قال فازداد تقديسهم له وازدادت الرقعة سوادًا وطُرِدتا الابنتان شر طرد من قصرهما بالقرية بعدما جهلتا كيف تقولان للناس أنَّ وشم العقرب الأحمر كان هو ذاته على باطن ساعد اليد اليسرى للطبيب للتَّفريق بينه وبين توأمه المولود قبله بلحظات.