واسيني الأعرج عن جريدة “أثير” العُمانية 1 سبتمبر 2022
منذ عشرات السنين، سؤال غريب ينتابني كلما صفوت إلى ذهني ووحدتي. سؤال أبيض كما لو أنه خرج من فراغ الساعات، وتنتابني السنوات القلقة التي تمر ركضا أمام عيني، كعقربي ساعة مجنونة: كيف لرجل جميل، ممشوق القامة، متعلم، ونقابي عمالي نشيط، عاشق للحياة، يكره الظلم، كيف له أن يترك الحياة الفرنسية الناعمة المخملية، برفقة امرأة كان المرحوم عمي “الشايب” يقول بشأنها “كنا نحسده عليها. كانت استثناء في كل شيء. في ثقافتها وفي جمالها المدهش. كان يزورنا برفقتها كل يوم سبت. يدق على الباب في نادي المغتربين الذي كنا نقطنه. يدخل وهو يفرك يديه ويضحك: أخرجوا قليلا من سجنكم. سيحوا في المدينة واخرجوا من عقلية الغريب. الحب لا غربة فيه. تعلموا كيف تقهروا النظام.” وحكى لي أنه آخر مرة زارهم فيها، كان ذلك في شتاء 1956، كانت النار قد اشتعلت في الجزائر. يومها كان وجهه حزينا ورماديا. مرهقا. “سألته: أحمد خويا، أين تركت مارنيا (سماها تبركا بأخته مغنية، كان اسمها الحقيقي ماريا)؟ قال بحزن افترقنا. لم يكن ذلك يشبهه. صمت قليلا… ثم واصل: سأسافر قريبا إلى البلدة…” ضحك عمي الشايب وهو يروي بقية الحكاية: “هل لأن الوالد مريض. كان يعرف قصدي.” ذكره بتلك الليلة البعيدة من سنة 1939، التي طلب فيها والده (جدي) منه العودة بسرعة إلى البلدة بسبب مرضه، ورؤيته الخطيرة المرتبطة بالأرض التي كانت تسرق منه. طلب منه أن يترك كل شيء ويعود إلى البلدة. وعندما عاد، زوجه بأمي، هذا هو التقليد: حماية الشاب من الانزلاق، تزويجه، على الرغم من أن والدي لم يكن في حاجة إلى ذلك. كان من الصعب عليه اختراق قرار الوالد. أمضى زمنا طويلا صامتا قبل أن يغادر البلدة، ويعود إلى حياته بصعوبة مع مارنيا. يقول عمي الشايب وهو يحاول أن يجيب عن أسئلتي القلقة: “أتذكر أنه دخل علينا يومها عمي موح بعصاه الثقيلة. كان عضوا في فيديرالية الجزائريين في فرنسا. منحه ملفا وهو يتمتم: اقرأه ومزقته، لا يجب أن يعثر عليه أحد. ثم أضاف: سمعتك تتحدث عن ماريا. لا تكن غبيا. لا تتركها. هذه المرأة لا تحبك فقط ولكنها تحبنا جميعا، وهي من أخذ كل قضايانا في الغربة على عاتقها. صحيح أحزن جدا للالة أمزار(أمي. اسمها يعني في الأمازيغية قوس قزح وإلهة المطر) لكنها بين أهاليها وفي حضرة أبنائها. كلما تعقدت أوضاعنا مع الشرطة كانت ماريا هنا. أتذكر لما قلتَ لي أنكما قضيتما أياما في الحواجز لا تشبه الأيام، أنا كنت وقتها في مناجم الشمال.” شارك والدي في أيام الباريكاد. 21 أوت 1944. دفاعا عن باريس ضد النازية. كانت مارينا تقول دائما: يوم تُدحر النازية، في الليلة الموالية سترفع أعلام استقلال الجزائر. صدق والدي الكذبة، وصدقتها مارينا. تجندوا جميعا. اشترك أغلب الباريسيين في النفير العام. اقتلعوا الأشجار، وحجارة الأرصفة، وأكياس الرمل وأغلقوا الطرقات. كان من الذين سدوا تقاطع شارع سان جيرمان وسان ميشيل للدفاع عن المدينة والسيطرة على معابرها الأساسية. على مدار ثلاثة أيام، تم نصب حوالي 600 حاجز لتوقيف القوات النازية وتعطيل حركتها، بما في ذلك استعمال السيارات الخاصة والشاحنات. وتم الاستيلاء على المطابع التي كان بعضها يشتغل في سرية. عنونت يومها جريدة “الباريسي المُحَرَّر Le parisien libéré” صفحتها الأولى: انتصار باريس على الطريق. فجأة اشتعلت النيران في كل مكان قبل أن تلتحق بهم، بعد ثلاثة أيام، قوات التحالف
شيء من سيرة الأمر وأحوال الغابرين
في فجر أحد أيام شهر سبتمبر 1957، سافر والدي عبر سفينة مارسيليا إلى وهران ومنها إلى القرية. لكنه قبل أن يسير في ممشى السفينة منكس الرأس، سمع صوتا يشبه صرخة أو نداء: آمد (أحمد) أرجوك توقف للحظة. لم يكن في حاجة لبذل جهد كبير لمعرفة صوت مارنيا. ارتمت في حضنه للحظات طويلة ثم قالت بالكاد سمع صوتها: عد بسرعة. اطمئن على زوجتك وأبنائك وعد بسرعة، يمكنك أن تناضل ضد الاستعمار من هنا، من باريس. لا يعلم كم مر من الوقت لكنه عندما فتح عينيه وجد نفسه على كرسي خشبي بارد وهو يتأمل البحر وهو يرجع إلى الوراء، كأنه كان يسحبه إلى الخلف، باتجاه لحظته الأولى، يوم دفعه الفقر والحاجة العائلية إلى مغادرة البلدة وعمره لم يتجاوز العشرين، في شتاء 1933. كان ذلك اليوم عاصفا وثقيلا وحزينا، لكنه كان مفرحا لأن والدي كان حالما كبيرا. في محطة القطار في مغنية، لم يفكر في شيء آخر سوى في تلك السفينة الثقيلة التي تقله من وهران إلى مارسيليا ومنها إلى باريس عبر قطار آخر والالتحاق بمن سبقوه إلى هناك من أبناء العمومة والأخوال
، إنه هرب ليلا نحو وجهة مجهولة. لكن الحَرْكِي (المتعامل مع الجيش الفرنسي) “أحمد عبو” أسر لها بكل شيء. “كفي من الانتظار، أحمد مات” كانت كلماته باردة وزمت فمها لكيلا تصرخ في غابة صماء. قضت أمي عمرها كله تبحث عن عظامه لإعادة دفنها للوقوف عليها كل صباح يوم جمعة أو في الأعياد الدينية والوطنية، لكن عبثا. بعد قرابة النصف قرن من الانتظار، أخذت رفشا وفأسا وذهبت إلى المقبرة. حفرت قبرا (القبر المفتوح) وسيجته، وانتظرت العظام التي لم تأت أبدا. تم تفتيش كل الأماكن المعروفة في القرية التي كان يُعدمُ فيها المجاهدون، ولكنها في كل مرة كانت تعود بخيبة
توفيت أمي وظلت عظام والدي معلقة في هواء القرية وذاكرتها
وكلما مررت على البلدة تأكدت من أن اسمه ما يزال مثبتا ومحفورا على مقام الشهيد الرخامي، الذي بدأت قطعه تتساقط وعلاماته تمَّحي؟
السوسُ اللعين
ثم عاد لكيلا يعود أبدا إلى باريس؟ كانت سفرة خريف 1957، سفرته الأخيرة. أتساءل أحيانا، وإلى اليوم: اية قوة داخلية توفرت لذلك الرجل الذي أحب الحياة ليترك كل شيء ويخرج من شرنقة المتعة ويذهب كالسهم نحو موت كان ينتظره في أحد الزوايا المظلمة؟ كيف ترك ماريا أو مارْنيا وراءه والتحق بفيالق المحاربين على الضفة الأخرى؟ بماذا كان يحس وهو يتلاشى شيئا فشيئا على كرسي التعذيب، محاطا بزبانية الموت والجريمة؟ سنتان 1957-1959 كانتا كافيتين لاختزال حياته كلها ووضعها في خانة شهداء الثورة الذين تغنت بهم الأهازيج الشعبية طويلا قبل أن تصمت نهائيا. شهيدا بلا قبر، كان والدي. أخرج في منتصف ليلة 02-04-1959، جثة هامدة. من يومها نظفت الزنزانة التي كان محجوزا فيها، في سجن “السواني”، ليرتادها شخص غيره. بينما أغلق ملفه
قصيدة للشاعر الفرنسي سان جون بيرس…او اليكسيس ليجي
زاوية واسيني الأسبوعية ” شيء مِنّي” كل صباح يوم الخميس