تواضع النقاد القدماء على تعريف الشعر بأنه كل ” كلام موزون مقفى يدل على معنى ” ومن ذلك ما أورده قدامة بن جعفر في كتابه”نقد الشعر “
وظل هذا التعريف خلال فترات طويلة يتحكم في مسار الشعر، يجمده في مجموعة قواعد يتم بها تقنينه. ولا غرو أن تعريفا مثل هذا لا يؤدي إلى تجميد الشعر فحسب، بل إلى القضاء عليه أيضا، لأن كل تعريف بالضرورة هو نوع من التقعيد ووضع القوانين. ولأن وضع قوانين في هذا الباب ليس تجميدا للشعر فحسب، بل هو نفي له، على اعتبار أن هذا التعريف ينص على شكل الشعر وليس على جوهره،بحيث يحصره في التقفية والخضوع للنظام الخليلي والدلالة على معنى وهذا قد يشمل الشعر وغيره، بما في ذلك النظم..
وحين نريد الوقوف على مفهوم الشعر لدى أدونيس فلن نحصل على تعريف معين يحدد ماهية الشعر، باعتباره خرقا للقواعد وتجاوزا مستمرا للواقع،بدليل قوله:” و إن كنت تقصد تحديد ماهية الشعر فسؤالك لا يجاب عنه، ذلك أن الجواب كل جواب يستند إلى قواعد ومقاييس، والشعر خرق مستمر للقواعد والمقاييس “(1)
بهذا المستوى يتجاوز الشعر مع أدونيس أي تعريف لأنه لا يستقر في شكل معين، إنما تتحدد ماهيته من خلال طرحه الأسئلة باستمرار، والتطلع أبدا إلى المستقبل ،بهدف الكشف عن المجهول وسبر أغواره، فلا يقف عند غاية محددة، إنما يرتبط بالسفر الأبدي الذي لا ينتهي ولا يصل، فالوصول توقف، والشعر حركة مستمرة وبحث دائب، وسؤال لا ينتهي إلى جواب، إنما يولد الأسئلة تلو الأسئلة. فمن أخص خصوصياته أن ” لا يقبل أي عالم مغلق نهائي وأن لا ينحصر فيه، بل يفجره ويتخطاه. فالشعر هو هذا البحث الذي لا نهاية له. “(2)
هكذا يتجاوز الشعر المفاهيم التقليدية الموروثة وينفض ما ترسب منها ويحتفظ فقط “بالقدرة على الحلم ” ففي الحلم يطرح الشاعر رؤياه المستقبلية التي تستبق الزمن، تتجاوز العادة، وتخرج عن المألوف السائد الذي تكسبه العادة نوعا من التكرار ونوعا من الدوران في حلقة مغلقة. وهذه دعوة صريحة من أدونيس للخروج على الطرق الشعرية الموروثة لأنها لم تعد قادرة على استيعاب القضايا المستحدثة. والمنهج الذي يطرحه أدونيس لا يقف عند حدود الظاهر، إنما يغوص في أعماق الباطن لاستكشافه، باعتبار الظاهر ليس إلا عتبة إلى الباطن الذي يعتبره وحده الحقيقة الخفية التي يجدر استكشافها، هذه الحقيقة التي لا يفتأ أدونيس يؤكد عليها في كتاباته المتعددة، نقدية نظريةأوحتى إبداعيةعلى حدسواء، على اعتبار أن مجاميعه الشعرية تعكس تمثلا لتصوراته النظرية، ولا تنفصل عنها ، حيث يطرح مجموعة أسئلة بهذا الصددمن قبيل:” ما المرئي العربي؟ ما وراءه؟ ما الذي يعطيه الصورة وما معناه؟ إن دراسة ذلك الظاهر لا قيمة لها إذا لم تعرف باطنه أو ما وراءه. إن دراسة المعلن وحده خصوصا في مجتمع كالمجتمع العربي تظل سطحية وعقيمة، ذلك أن هذا المجتمع يقوم في أعمق خصائصه على المكبوت المحجوب ،حتى أنه ليمكن القول اليوم أن الفكر العربي الحقيقي هو الذي يدرس المخبوء لا المكشوف”(3)
هكذا يخرج الشعر عن حدود الظاهر فلا يظل مرتبطافقط بالوصف والسرد أو رصد الجزئيات العارضة والوقائع ،إنما يتجاوز ذلك إلى الارتباط بالإنساني والكوني ،فلا يظل سجين الواقع، إنما ينطلق من الواقع ليتخطاه ويتجاوزه. بمعنى آخر يصبح ” الواقع الذي يتجاوز الواقع ” وإذ يرفض أدونيس الارتباط بالواقع فإنه يرفض الشعر/ المحاكاة، الذي يستنسخ الواقع، أي يرفض الشعر الذي لا يعدو أن يكون صورة فوتوغرافية للواقع. لانه بذلك سيفقد مسوغ استمراريته، فيرتبط باللحظة والآن.
فالعالم الواقعي، المتعارف عليه بين عامة الناس، لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون العالم الحقيقي الكلي، بل لا يعدو أن يكون ” بوابة تصلنا بالعالم الكبير الآخر، العالم الذي ينتجه الشعر ويقود إليه. “(4)
هذا الخروج عن المألوف والبحث عن عالم آخر عبر رؤيا شعريةخلاقة يؤكد بالضرورة نوعا من الاستغلاق واستعصاء الفهم على عامة الناس،وهذا ما يطرح مسألة الغموض في الشعر، هذه المسألة التي يبدو فيها موقف أدونيس في كثير من تصريحاته موقفا محددا إذ” ليس من الضروري لكي نستمتع بالشعر أن ندرك معناه إدراكا شاملا، بل لعل مثل هذا الإدراك يفقدنا هذه المتعة. ذلك أن الغموض هو قوام الرغبة في المعرفة ولذلك هو قوام الشعر “(5)
بهذا يبين أدونيس كيف أن الغموض يلازم الشعر، بل يندرج ضمن خصوصياته، إذ يسبغ عليه نوعا من الجمالية، ويعطيه طابع التعددية، فلا تصبح القصيدة خاضعة لمعنى واحد لا تتعداه، إنما تكون بؤرة للدلالات والاحتمالات، وهذا يطرح بالتالي منهجية جديدة في التعامل مع النص الشعري، تتمثل في استقصاء القدرات اللغوية التي تتضمنها القصيدة واستكشاف القدرات المعرفية، فلا تظل القصيدة عملا جاهزا لا يتطلب أي مجهود من القارئ، إنما على العكس من ذلك فالقصيدة العظيمة “ليست شيئا مسطحا تراه وتلمسه وتحيط به دفعة واحدة، إنها عالم ذو أبعاد..عالم متموج متداخل..تعيش فيها وتعجز عن القبض عليها..تغمرك وحين تهم أن تحضنها تفلت من بين ذراعيك كالموج. “(6)
بهذا المستوى يصبح الغموض في الشعر من العناصر التي تقوم عليها التجربة الإبداعية الخلاقة التي ترتبط بالإنسان على مر العصور.
يلح أدونيس على أهمية التجربة الفردية، إذ كلما يبرز الفرد كفرد يكون الخلق والإبداع. فالفرد هو نقطة البدء. هو الذي يؤسس. وإذ يتغرب الفرد عن ذاته في الجماعة يكون الاتباع والجمود.
انطلاقا من التجربة الفردية انبثق الفكر الخلاق المبدع في المجتمع العربي عند الرافضين الالتصاق بالجماعة والذوبان فيها ( تجربة الشعراء الصعاليك مثلا ) حيث تبرز الذات كعنصر جوهري وتصبح ” علامة التحرر والحرية، أي رفضا للتشيؤ سواء كان الانصهار في جماعية القبيلة وعصبيتها، أو الخضوع لسلطوية النظام. كانت هذه الذاتية يقظة الإنسان في عالم يحكمه نظام الأشياء.” ( 7)
انطلاقا من خصوصية التجربة الشعرية يتفجر الإبداع. فالشاعر لا يستطيع أن يبدع ضمن الجماعة، لأن الجماعة ليست كتلة واحدة تتحرك وتعمل بإرادة واحدة، إنما هي مجموعة أفراد ولا يمكنها بحال من الأحوال أن تتفق على رؤيا معينة تبدع من خلالها، ومن ثمة يصبح التصاق الشاعر بالجماعة طمرا للإبداع وقتلا للشعر بمعناه الحقيقي، لأنه يتحرك ضمن ما هو سائد ومتعارف عليه، فلا يستطيع تجاوز العام ويتساهل في إبراز الخاص. فالشاعر “في الجماعة يكبت ما يفرده ويظهر ما يجمعه. الوعي ضمن الجماعة أفكار ثابتة واضحة، قواعد، عادات. ” (
إلا أنه رغم خصوصية التجربة التي تميز الإبداع الفني عند المبدع فهي جزء من التجربة الإنسانية ككل. وهنا تكمن أهمية التجربة التي لا تصبح خاصة بمرحلة معينة إنما تتخطى العصور والأزمنة.
فالقصيدة/ النص تنبثق من التاريخ وتعيش فيه، لكن أهميتها تتجلى في استقلاليتها عن التاريخ ،بحيث لا تعود مرتبطة به كأحداث و وقائع متسلسلة. فتاريخ الشعر هو تاريخ التغير والتجدد، وليس التاريخ بمعناه التقليدي من حيث أنه استمرارية لمعنى واحد يصبح فيه النص اللاحق مكملا للسابق. إنما ” التاريخ هوالتغير. تاريخ الشعر هو أشكاله الجديدة، تاريخ الحساسية الشعرية العربية هو تغيراتها. “(9)
بهذا المعنى يتحقق الوجود الإنساني والكوني للقصيدة. إذ تفرض نفسها باستمرار كلما تخلت عن الوقائع العارضة والأحداث الطارئة، وهي بذلك ” تتجاوز التاريخ وإن ارتبطت بلحظة معينة…ترتبط بالأزمنة كلها وتتحول باستمرار”(10)
ويحرص أدونيس على الاهتمام بالبنية الإيقاعية للقصيدة وتجاوز الوزن كمقياس للشعر، بل تجاوز القاعدة القديمة التي تواضع عليها النقاد باعتبار الشعر هو ” الكلام الموزون المقفى “.فلا يصبح بذلك كل كلام موزون شعرا ولا يخلو كل نثر من الشاعرية.
وهذا يطرح بالتالي مسألة القصيدة والشعر حيث يتم الخلط بينهما بشكل تعسفي، فليس كل عمل مكتوب ضمن قواعد الوزن شعرا بالضرورة، إذ تصادفنا أعمال تعليمية تخضع للوزن دون أن يكون فيها أثر للشاعرية.
بهذا يبدو الوزن عبارة عن مجموعة قواعد تحد من فاعلية الكلمة وتقيدها، ومن هنا حرص الشاعر الجديد على تحطيم هذه القواعد ” فلا يجمد في أوزان محددة تجعل من كتابة الشعر تطبيقات منهجية. إنه يهبط إلى جذور اللغة، يفجر طاقاتها الكامنة التي لا تنتهي في إيقاعات لا تنتهي..
إن الشكل الشعري الجديد عودة إلى الكلمة العربية وإلى سحرها الأصلي وإيقاعها وغناها الموسيقي والصوتي..
والشكل الشعري العربي يتكون الآن بدءا من الإيقاع لا بدءا من القريض” (11).
من هنا لا يظل الوزن متحكما في الشعر. فداخل القصيدة النثرية يوجد الشاعري، وفي القصيدة الموزونة قد نعثر على النثر. وهذا يؤدي إلى تحديد الفروقات بين الشعر والنثر. فالشعر ” لمح تكفي إشارته” كما قال الشاعر القديم، إذ يعتمد على الإيحاء، في حين يحتاج النثر إلى الإيضاح واطراد الأفكار.
والشعر إلى جانب كونه انفعالا وعاطفة فهو فلسفة أيضا، إذ يكون تعبيرا عن العالم، غير أن هذه الفلسفة ليست نظاما أو مذهبا، إذ لا تقدم لنا العالم في علاقات منطقية، إنما تقدمه في توهج الحدس والرؤيا. فالشاعر
” من يقفز بحدسه فيما وراء العقل و المنطق، ويتحد بتيار الحياة ودفعته الخالقة..لا يقدم أفكارا بقدر ما يقدم حالات، لا( يرسم ) ولا يسرد، بل يوقظ الأسرار النائمة في الأشياء…إنه يغير نظام الكلمة ونظام الحساسية ونظام العالم. “(12)
يقرن أدونيس الشعر بالفلسفة لكنه يعترض على التعبير غير الشعري واسطة لإقامة صلات منطقية أو عقلية. لأنه يخرج على النسق والنظام، فالشعر فلسفة من حيث أنه “محاولة اكتشاف أو معرفة الجانب الآخر من العالم، أي الجانب الميتافيزيقي كما نعبر فلسفيا. “(13 )
وقد يلتقي الشعر بالعلم، إذ يصبحان واحدا عندما يتوحد هدفهما في السير نحو حقيقة واحدة هي ” كشف المجهول وتمجيد الإنسان.”
المراجع:
– زمن الشعر: أدونيس/ الطبعة الثانية، ص 312
2- نفس المصدر، ص 43
3-مواقف عدد 43 ،ص5/6
4-زمن الشعر:أدونيس الطبعة الثانية، ص 47
5-نفس المصدر ،ص 21
6_نفس المصدر، ص 159
7-نفس المصدر،ص 272
8-نفس المصدر، ص 211
9- نفس المصدر، 59
10-نفس المصدر، ص 90
11-نفس المصدر، ص 164/165
12-فاتحة لنهايات القرن: أدونيس ص 31
13-زمن الشعر: أدونيس، ص 174
14-نفس المصدر، ص 181
15-نفس المصدر، ص 15
16-نفس المصدر، ص 72
17-نفس المصدر، ص 78