كان مساء من مساءات فصل الربيع من شهر نيسان، بعض الغيوم كانت تسير بسرعة، تلفت نظر الطيور التي تحلّق على ارتفاع لا بأس به، على يمين الممرّ في الحديقة العامّة مقاعد حديدية أشبه بالمقاعد التي توجد في محطّات القطارات القديمة، أشبه بكومة حديد صدئة من مخلّفات الحرب، على أحد تلك المقاعد كان يجلس منصرفًا إلى التأمّل. اليوم بدت عليه علامات التعب واللامبالاة، الشمس تحبو إليه من بين السحب الممزّقة، عيناه وحيدتان، تهجعان تحت حاجبين كثيفين، منفصلين عن عالم المادّة، وبكلّ ما يربطنا بهذه الأرض، شعره أجعد، متين البنية نوعًا ما، يرتدي جاكيتة سوداء تحميه من لسعات برد الربيع الخفيفة، وعلى رأسه قبعة من القشّ، يحمل في قسمات وجهه غرابة غير مألوفة، وكأنّه من مدينة أخرى، نظرات ثابتة. اليوم قرّرت اقتحام صمته ، ولكن تردّدت قليلًا تحسّبًا من ردّة فعله على قضّ سكينته، بدا في الستين من العمر، يبدو وكأنه كائنًا منسيًّا على كومة الحديد تلك، بشعره ولحيته الكثّة، وقد سبقه العمر إليها، فابيضّت، وتركه على سجيّته غير مبالٍ بما يحدث حوله، تغطّي جزءًا من رأسه قبّعته، لتزيد من وجلي بمبادرة الكلام إليه، تعبت من المشي ومن الأخبار، وأردت أن أرتاح بضع دقائق أتأمّل السحب الهاربة نحو الغد الماضي من وجه الريح لألتقط أنفاسي، لم أرد الانصياع إلى رغبتي في اكتشاف المجهول، ولم أرد أن أصغي إلى الفكرة الملحّة في رأسي، أن أكتبها نصًّا ورقيًّا، استبدّ الحزن بي، وخفت أن تطبع كلماتي باقي يومي بطابع الأسى، وأن أنقل هذه المشاعر السلبية إلى هذا الضيف. انقضى الوقت وأنا أفكّر، أصابعه الطويلة وكأنّها أصابع عازف بيانو، هممت أن أسأله عن أيّ المقطوعات الموسيقية الأحبّ إليه، وليته يُسمعني إيّاها ، ولكن تراجعت في آخر لحظة، هممت من جديد أن أسأله عن أخبار نيسان، وكيف للحرب أن تبدأ في فصل الربيع، والموت في فصل الحياة. الحرب يبثّ الموت والدمار النفسي بشكل لا يمكن أن يحتمله الإنسان العادي، وعن منظومة الذل والوجع، الوباء واللقاحات، وأن أستوضح أفكاره، ولكن رأيت الكلمات تتسمّر على شفتيّ، وهو يقول:
مرّ عليّ زمن طويل، وأنا ….
التفت إليّ وكأنّه قرأ أفكاري، شعرت بحرارة وكأنّه يقترب منّي بخطوات ثابتة، وأخيلة الغروب تفتح الغيم، فيرتعش شجر النخيل تحت أشعتها.
هذا الحبس ضيّق جدًّا، وفي جوانبي تتسرّب الكآبة، تدبّ دبيب الحشرات في تراب الأرض، كلّ من مرّ من هنا يقف أمامي، يتفحّص شكلي وكأنّي تمثال حجري،
ضاق الأفق أمامي تحت وابل نظراته، وعبثًا حاولت أن أتجنّبها، أكمل:
ربما اعتقدني البعض مجنونًا هاربًا، أو ربما مجرمًا أتسكّع في الحدائق العامّة، ولكن، وبكلّ بساطة لا أوافقهم متاعبهم.
ضجّت العصافير من حولي، تطير نحو أوكارها، والأزهار تنثر عطرها الليلي، وتتسرّب الأضواء الخافتة من شبابيك المنازل المقابلة، والفضول يدفعني إلى أن اقترب أكثر، وألعب معه لعبة المغامرة، وكلما اقتربت تبدّت ملامحه المتجعّدة أكثر هيبة ووقارًا. راح يمسّد شعر لحيته البيضاء، يلفظ كلماته الأخيرة، يشبع فضولي متأمّلًا ملامح وجهي، حّولت نظري إلى الشرق، وبشفة ترتعش قليلًا، تمتم: طوبى لمن كانوا من قبلي في حياتك!