إنّ نظرةً موضوعيّةً، لواقعنا اللّبنانيّ، تبيّن بجلاء مدى حاجة هذا الواقع إلى مثقّفين رساليّين، منتمين إلى فكرٍ مستنير، يخرجنا من كهوف العَتَمَة إلى فضاء العقل المتوهّج، بروحٍ عصيّة على التقوقع والانغلاق والتعصّب المَقيت.
ولعلّ هروبنا من معاينة هذا الواقع معاينةً واضحة، أسهم_ على نحوٍ ما_ في تردّي أحوالنا؛ فبتنا قبائل متناحرة، نتفاخر فيما بيننا، بقدرة أحدنا على طمس الآخر.
والطّمس قد يكون تعصّبًا يجسّده رهطٌ من أهل الضّلالة، باسم الدّين؛ أو باسم الفكر، يجسّده فريق لا يتقبّل الآخر، إلّا إذا كان تجلّيًا من تجلّيات الأنا؛ وهذا الطّمس يكاد يرادف القتل المعنويّ؛ لأنّ انتشاره يقوم على عُدّة قوامها الكلمة والوسائط التّواصليّة؛ ويكون الوطن برمّته هدفًا له.
تأسيسًا على ما سبق ذكره، أرى أنّ من أهمّ المُهِمّات التي تقع على عاتق المثقّف الرّساليّ، أن ينطلق من مفهوم “وحدة لبنان” بكونه من “المقدّس” الذي لا يجوز لأحدٍ مسّه بسوء.وهذا المفهوم يجب أن يستند إلى مصطلحات ” الكرامة والعدل والحرّيّة” فلا يتوحّد الوطن على الخنوع والظّلم والتّبعيّة.
والقراءة الموضوعيّة نفسها، تبيّن بجلاء مدى التعقيدات في بنية هذا الواقع؛ وهي تعقيدات تتبدّى في أبعاد مناطقيّة، أو طائفيّة، أو مذهبيّة، أو طبقيّة، أو معرفيّة.
هذه التعقيدات تطرح إشكاليّة التّعاطي معها، وتطرح دور المثقّف الرّسالي الذي ينبغي له أن يتّخذ من الثّقافة رسالة، تهدف إلى رأب الصّدع، ولمّ الشّمل، وجمع الشّتات، وفق رؤية وطنيّة علميّة، تحسن المعاينة، وتجيد المعالجة.
ولعلّ أولى السّجايا التي ينبغي للمثقّف أن يتّصف بها، التّحلي بالجرأة الصّادقة التي لا تخدش المشاعر، ولا تنفّر القلوب، والتي تفضي إلى إشعار المتلقّي بأنّه صديقٌ حميم، وليس”زَبونًا” لتسويق أفكار ما؛ في نسق يبتعد من نمطيّة استعلاءٍ يمارسها رهطٌ من المثقّفين.
ولعلّ من أصعب العوائق التي يجب على المثقّف السّعي إلى إزالتها، تلك النّظرة التبخيسيّة السّلعيّة للكلمة ودورها؛ ف”في البدء كان الكلمة” وعلينا أن نستلهم من هذا البعد اللّاهوتي بعدًا أدبيّا فكريّا، تصبح فيه الكلمة بَدْءَ وطنٍ جديد.
ولعلّ ما يجب أن يتصدّى له المثقّف اللّبناني، صلته بالفضاء الإقليميّ، فلا يكون رجْعَ صدًى للخلافات التي تعصف في هذا الفضاء.
ومن نافلة القول، أنّ العوامل التي تسهم في نجاح المثقّف الرّساليّ في مهمّته، حسن التوأمة الخلّاقة بين التراث والمعاصرة، في نسق حداثيّ، قائم على الإفادة من منجزات الحضارة الإنسانيّة، في أبعادها كافّة.
وبصفتي عضوًا في الهيئة العامّة لاتّحاد الكتّاب اللّبنانيّين، فإنّني أناشد كلّ الطّاقات الإبداعيّة والفكريّة مؤازرة الاتّحاد في مسيرته، ومتابعته متابعةً نقديّة تَصْدُقُه، ولا تُصَدّقه إلّا حين يكون في الاتّجاه الصّحيح، أي حين يسعى إلى أن يكون اتّحادًا لكلّ الكتّاب اللّبنانيّين، وليس لفئة منهم، بعيدًا من أيّ ارتهان سياسيّ، إلّا الارتهان للبنان وحدَه.
وأخصّ بمناشدتي القامات الباسقة التي سبق لها أنّ ظلّلت اتّحاد الكتاب، أن تؤوب إليه؛ لتظلّله في هذا الهجير، بسعة ثقافتها، وغنى تجربتها.
وأناشد المثقّفين كافّة: تعالَوْا نُعِدْ معًا نضارة هذا الاتّحاد؛ ليكون منارة إبداع، ومرآة من مرايا لبنان المبدع، ودليلًا نحو هيكل الحرف المضيء الجميل، المعبّر عن هواجس المتعَبين، وأحلام الطّامحين، وطمأنينة السّاعين إلى دولة العدل والحقّ والخير والجمال.
حمى اللّه لبنان!