شوقي بزيع
ناديا حمادة وغسان تويني : الحب الغامر الذي حوله الموت الى تراجيديا إغريقية
لم تكن العلاقة العاطفية المشرقة التي جمعت بين الشاعرة اللبنانية المتميزة ناديا حمادة والصحفي اللبناني الأشهر غسان تويني , من النوع المألوف الذي يتكرر حدوثه كل يوم , بل هي تبدو لشدة فرادتها وغرابة محطاتها , وكأنها سِفْر دراماتيكي من أسفار العهد القديم , أو فصل متأخر من فصول نشيد الإنشاد , أو فانتازيا سحرية مقتطعة من روايات ماركيز . ولذلك فلم يكن بإمكان هذه السلسلة الطويلة من المقالات المتعلقة بزواج المبدعين , أن تأخذ طريقها الى الإكتمال , دون التوقف ملياً عند هذه العلاقة الاستثنائية في تناقضها الضدي , والتي ذهبت من جهة الى أقاصي الحب والحدب الانسانيين , فيما كان الموت من جهة ثانية يهيئ لها مصيرها القاتم ومآلها المأساوي . واللافت في تلك العلاقة أن انخراط طرفيها في مؤسسة الزواج , ولمدة تقارب العقود الثلاثة , لم يقلل على الاطلاق من ألقها الرومنسي , ولم يحول نيرانها الى رماد , خلافاً للكثير من التجارب المماثلة التي أفرغتها الرتابة من الشغف , وأودى بها نزق أطرافها النرجسي , الى الإخفاق والتصدع الكاملين
تنتمي ناديا حمادة المولودة في بيروت عام 1935 لإحدى أكثر الأسر الدرزية عراقة في الجبل اللبناني . وقد بدت بثقافتها الواسعة وشخصيتها القوية والمنفتحة , ثمرة الزواج الناجح بين أبيها اللبناني , ابن قرية بعقلين الشوفية , المثقف والدبلوماسي محمد علي حمادة , وأمها الفرنسية من أصل جزائري مارغريت مالاكان , وهو ما ساعدها على تكوين رؤية للعالم بالغة الرحابة وبعيدة عن الانغلاق , وصولاً الى تمرسها باللغة الفرنسية قراءة وكتابة , الى حد وقوفها اللاحق جنباً الى جنب مع أفضل المبدعين الفرنسيين
أما غسان تويني المولود قبل ناديا بتسع سنوات , والحائز على بكالوريوس الفلسفة من الجامعة الأميركية في بيروت , وعلى ماجستير في العلوم السياسية من جامعة هارفارد , فقد تربى من جهته في كنف جبران تويني , مؤسس جريدة ” النهار ” , إحدى أكثر الصحف اللبنانية عراقة وتأثيراً , قبل أن يتولى إصدارها ورئاسة تحريرها بعد رحيل الأب . وقبل أن يلتقي غسان بناديا عام 1954 , كان اسمه قد اكتسب لمعانه من أدوار وحقول عدة , بينها نبوغه الصحفي , وتعرفه الى مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة , ومن ثم انتماؤه الى الحزب , وانضمامه الى الجبهة الاشتراكية الوطنية التي أسهمت في إسقاط الرئيس اللبناني بشارة الخوري وصولاً الى انتخابه نائباً عن جبل لبنان عام 1951 , ونائباً لرئيس مجلس النواب اللبناني عام 1953
و في كتاب سيرته يحرص صاحب ” النهار” على التنويه بأن الصدف المجردة هي التي رسمت لحياته مسارها المختلف . إذ إنه كان قد سافر الى اليونان , طلباً للراحة من مشاغله الكثيرة المرهقة , حيث كان كيوبيد , إله الحب عند الإغريق , يهيء له سهام العشق والافتتان التي آصابت قلبه في الصميم . وإذ يؤكد تويني بأنه لم يكن يعلم على الاطلاق بأن للسفير اللبناني في أثينا ابنة فائقة الجمال تسمى ناديا , يصف لقائهما الأول بالقول ” تعرفت الى ناديا حمادة بعد أسبوعين من وصولي الى أثينا , بمناسبة مأدبة عشاء أقامها والدها في السفارة على شرف مجموعة من السياح اللبنانيين . ومن حسن حظي أنهم أجلسوني الى يمينها , وهو ما سمح لي أن أصارحها طوال فترة العشاء , ليس فقط بأنها جميلة وذكية , بل متكلمة مفوهة أيضاً . لقد كانت مثقفة جداً وآسرة للغاية . تجاذبنا أطراف الحديث طوال السهرة, لا بل أكثر من ذلك . إنه الحب من النظرة الأولى , أصابنا نحن الإثنين “
وفي حوار له منشور في جريدة ” النهار ” عام 2014 , يؤكد مروان حمادة , شقيق ناديا والسياسي اللبناني المعروف , بأن جميع أفراد الأسرة شعروا آنذاك بعلاقة الحب التي جمعت منذ اللحظة الأولى بين الطرفين , والتي استطاعت أن تتخطى الحواجز الدينية التقليدية , لتبني مداميكها المتينة فوق أرض الثقافة والفن والوعي المعرفي . واللافت حينها أن ناديا لم تتردد , بعد أن فاتحها غسان بشأن الزواج , في قبول العرض الذي جرت مراسمه بسرعة قياسية في السفارة اللبنانية في أثينا . كما أن الزوجة اليافعة ذهبت أبعد من ذلك حين وافقت على التعمد في إحدى الكنائس الأرثوذكسية في أثينا . على أنه لم يكن لتلك الخطوة الجريئة أن تتحقق لولا ذهنية الانفتاح والتحرر الفكري التي وفرتها العائلة لابنتها الشابة , الأمر الذي سمح خلال فترة وجيزة , بتذليل العقد والاعتراضات والمواقف المتشنجة التي واجهت ذلك الزواج فحسب , بل باعتباره في الوقت نفسه ,إحدى اللبنات الأهم لتحقيق الانصهار الوطني والخروج من دائرة العصبيات الطائفية وشرانقها المغلقة
أما البيت العائلي الأنيق والرومنسي الذي اختار غسان وناديا أن يبنياه في بيت مري , وفي أحد أجمل الأماكن المطلة على بيروت , فقد بدا بمثابة الترجمة المحسوسة لرغبة الزوجين المثقفيْن في العثور على ركن هادئ يوفر لهما المسرح الملائم للنشاط الابداعي من جهة , ولتوفير جو مثالي لأطفالهما القادمين , من جهة أخرى. وحيث كانت موهبة ناديا الشعرية قد بدأت بالتبلور لدى الشروع في بنائه, فقد حرص غسان على أن يكون تصميم المنزل شاعرياً بامتياز , فاختار له حجارة مميزة , بعضها أثري وبعضها الآخر تم استحضاره من بقايا البيوت التي دمرتها حروب لبنان المتعاقبة , وأحاطه بالورود والأشجار , قبل أن يتفق الزوجان على أن يسمياه ” بيت الشاعر “, كتعبير رمزي عن ولائهما المشترك لأحد أكثر الفنون التصاقاً بالروح وصلةً بالأحلام
والواضح أن غسان وناديا تويني قد بذلا كل ما أمكنهما من جهد لرفد علاقتهما المشتركة بكل ما يلزمها من أسباب السعادة وهناءة العيش والعطاء الخلاق . وقد شكلت ولادة ابنتهما البكر نايلة , ذات الشعر الأشقر والعينين الخرزيتين والشبيهة بالكائنات التي نقرأ عنها في الحكايات وكتب الأطفال , الثمرة الأكثر بهاء لعلاقتهما الزوجية النموذجية . أما على المستوى الأوسع , فكان لبنان يشهد عصره الذهبي على صعد الاقتصاد والفكر والفن , فيما كانت ” النهار ” تتقدم الى موقع الصدارة بين مثيلاتها من الصحف , سواء على مستوى صناعة القرار السياسي , أو على المستوى الابداعي الذي شكل ملحقها الثقافي متنه وظهيره ورافعته الحداثية
إلا أن الزوجين اللذين حصّنا حياتهما العائلية بكل ما يدرأ عنها العلل والمنغصات , لم يضعا في حسابيهما بأن الموت سيسدد باتجاههما وعلى حين غرة ضرباته القاصمة , التي بدأت برحيل نايلة ابنة السنوات الست , التي أودى بها مرض السرطان عام 1963, مفتتحة بذلك سلسلة المصائر التراجيدية لأفراد العائلة الآخرين
ولعل من باب المفارقات الغريبة أن يكون موت الابنة هو البذرة التي طُمرت في باطن الأرض , لكي تجد موهبة الأم الخبيئة , سبيلها الى الانبثاق . ومع أن مروان حمادة يشير الى أن شاعرية شقيقته لم تأت من فراغ , وهي التي كانت تكتب نصوصاً أدبية عالية , إلا أن رحيل نايلة المأساوي , بدا بمثابة الصاعق الفعلي الذي سمح لها بالتفجر . وفي حوار أجريته معه في مكتبه في ” النهار ” قبل فترة وجيزة, ذهب حمادة الى القول بأن الانعطافة الدراماتيكية في شخصية ناديا وشعرها , كانت وليدة عوامل ثلاثة هامة هي : رحيل ابنتها المبكر , وهزيمة حزيران , والحرب الأهلية اللبنانية . وحين سألته عما إذا كان الشطر الايجابي الظاهر من زواج ناديا وغسان , يخفي وراءه أي نوع من الخلافات , أجاب بابتسامة مشوبة بالحزن ” لم يحدث بينهما شيء من ذلك , لا لكونهما مثاليين بالمطلق , بل لأن الموت لم يترك لهما ترف الدخول في أي صدام هامشي ”
وفي إطار حديثه عن موهبة ناديا الشعرية , يذكر غسان تويني في مذكراته بأن زوجته بعثت إليه في بداية علاقتهما , برسائل حب مؤثرة, و” بلغة فرنسية رائعة, تسببت له في حينه بالكثير من عقد النقص “. ومع ذلك فقد بدا صاحب ” سر المهنة وأسرار أخرى ” , وكأنه اعتبر تلك النصوص مجرد خواطر وجدانية آنية , لا إرهاصاً بما تبعها من عواصف الكتابة . وهو ما يؤكده قوله بأنه لم يقف على موهبة زوجته إلا بعد أن دفعت إليه إثر رحيل نايلة , بمفكرتها الشخصية التي تبين له إثر اطلاعه عليها , بأنها تضم نصوصاً شعرية بالغة التميز . ومن المفارقات المماثلة أيضاً , أن تويني الذي صرح لإحدى محطات التلفزة بأن ذائقته الشخصية أقرب الى القصيدة العربية الكلاسيكية منها الى التجربة الحداثية, هو نفسه الذي جعل ” النهار ” وملحقها الثقافي, إحدى المنصات الأبرز لمغامرة الحداثة . كما أنه أقر من جهة أخرى بأن رغبته في نشر نتاج زوجته الشعري , والسهر على ترجمة أعمالها الى العربية , كانت في طليعة الأسباب التي دفعته الى تأسيس دار النهار للنشر
وفي الوقت الذي بدأ السرطان يفتك بجسد الشاعرة , ليضع الابنة والأم أمام المصير إياه , كان سرطان رمزي مماثل يضرب من خلال الإحتراب الأهلي جسد وطنها لبنان , كما لو أن على كليهما معاً أن يدفعا غالياً ثمن ما أوتياه من جمال . هكذا تحول شعر ناديا الى مضبطة اتهام دامغة ضد فظاظة العالم وعدالته الخرقاء . ومع أنها عشقت وطنها حتى حدود الوله , وعبرت عن افتتانها بمدنه وسهوله وقراه وجباله وأماكنه الأثرية ” حيث إعصار الحجر يستمر في الهبوب ” , و ” حيث النسور لكي تنيخ بهاءها , تختار أعلى المزارات ” , فإن الشاعرة ما تلبث أن تصرخ أمام أشلاء وطنها المذبوح بحراب بنيه ” هل ولدتُ من كذبةٍ في بلدٍ لا وجود له ؟ ” . ومن يتتبع أعمالها المتتالية , بدءاً من النصوص الشقراء ” و ” حزيران والكافرات ” و” حالم الأرض ” وعمر الزبد ” و ” محفوظات عاطفية لحرب في لبنان ” وغيرها , لا بد أن يلحظ في شعرها ذلك التواشج العميق بين العذوبة والألم , بين ثقل الواقع وخفة الكلمات , وبين الثمل بخمرة الوجود والاستسلام الوادع للتلاشي النهائي , منتظرة وقد يئست من مقارعة الجدار الصلب للهزائم , ” موتاً ناعماً كالهواء الناعم بعد المعركة ”
والواقع أن الموت الذي وضع حداً لعذابات الشاعرة , في العشرين من حزيران ( يونيو ) عام 1983 , كان على قسوته رؤوفاً بناديا , لأنه جنّبها على الأقل أن تتجرع لمرتين متتاليتين الكأس المر الذي تجرعه بعد رحيلها غسان تويني , وقد قدّر له أن يشيّع بعد ابنته وزوجته , كلاً من ولديه مكرم الذي قضى بحادث سير مأساوي عام 1987 , وجبران الذي قضى اغتيالاً على مذبح الحرية عام 2005 . وإذ أوصت ناديا أن تدفن الى جوار ابنتها في حديقة منزلها العائلي في بيت مري , فقد كانت تريد أن تقلص ما أمكنها ذلك , المسافة بين منزل الشاعرة وبين قبرها ,لتستطيع أن تتسقط أنفاس أحبتها الأحياء , وليصبح الموت كما تمنته في قصيدتها , أليفاً كالنعاس , وناعماً كالنسيم , ووادعاً كالظلال الصيفية للأشجار
” كانت جدتي ناديا تسكن في النقطة الأعمق من قلب جدي غسان ” تقول حفيدتهما ميشيل , التي اختارت وفاء لهما معاً أن تجعل من منزلهما بالذات , المكان المثالي لتقديم برنامجها التلفزيوني الحواري , الذي أطلقت عليه اسم ” بيت الشاعر ” . أما غسان تويني الذي تزوج من شادية الخازن عام 1996 , فقد ظل رغم ذلك مسكوناً بحضور ناديا الطيفي , حتى لحظة رحيله الجسدي عام 2012 . وكان يحرص بين حين وآخر , على أن يردد أمام زواره النص الوجداني المؤثر الذي كتبه نزار قباني في رثاء ” الفراشة المنقوشة بالشعر “, والذي يقول فيه :
كانت ناديا تويني جميلةً ككتاب
ومرصعةً بالحروف والأزهار كجدار كنيسة بيزنطية
ومكتظةً بالعطايا كبيدر قمح
وكانت تتكحل مرةً بحزنها الخصوصيّ
ومرةً بحبر المطابع
ومرةً بأحزان لبنان
- الحياة والمحبة والتعلم: ثلاثية متكاملة
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم