مخائيل نعيمة ناسك الشخروب
عظيمٌ أنت يا ابن آدم
عظيم فوق ما تتخيّل ، وفوق ما يخطر لك في بال
عظيم أنت حتى بعقلك وإن يكن في غريزة البهيمة ما هو أعظم منه ، ويكن فيك ما هو أعظم من الاثنين
لكنَّك لست عظيماً بأفعالك وأقوالك ، كما يخيَّل إليك . فهذه ليست سوى الزبد المتطاير حول عظمتك الحقة
لستَ عظيماً لأنك فلقتَ الذرّة وأطلقت ما فيها من طاقةٍ هائلة . بل الحياة التي كوّنت الذرّة هي العظيمة . وهذه ستبقى سرّا مغلقاً في وجه عقلك
لستَ عظيماً لأنّك غزوت الفضاء ورحت تحلم بأن يكون لك موطئ قدم في القمر والزهرة والمريخ وغيرها من الكواكب . فستبقى في الفضاء اللامتناهي شموس ومجرّات وكوكبات لن تبصرها عينك ولن تطأها قدمك . وستبقى أنت معذَّباً في الكواكب الأُخرى كما أنت معذَّب في الأرض
لستَ عظيماً لأنك اكتشفت الأرض من القطب إلى القطب ، وذلَّلت بحارها ورواسيها ، وسخَّرت الهواء والبرق لأغراضِك . فستبقى في الأرض ، وفي اللجة ، وفي الهواء ، وفي البرق مجاهل لن تخترقها حتى بخيالك
لستَ عظيماً لأنّك شيّدت المدن الكبيرة ورفعت قبابها إلى السّحاب ، وزيّنتها بأروع الحدائق ، والمتاحف ، والمعابد ، فسيبقى الهيكل الذي هو هيكلك أروع من كلّ ذلك بكثير . وسيبقى مهندس ذلك الهيكل أبعد من متناول عقلك وسمعك وبصرك
لستَ عظيماً لأنّك صنّفت سكان الأرض شعوباً ودولاً وممالك وأقمت بينها التُّخوم والحدود والسّدود ، ثمّ رحت تحمي تخومك وحدودك وسدودك بحد السيف ، وهكذا جعلت من الأرض مسلخاً وساحة حرب وشقاء وكنتَ تريدها مِرْخماً للعافية وسريراً للسلام والهناء
لستَ عظيماً لأنك ملأت آلاف المكتبات بملايين المجلَّدات . فستبقى هناك الكلمة ــ الكلمة التي لم تنطق بها بعدُ شفتاك ، ولم تصوّرها بالحروف يداك ، والتي يوم تنطق بها تستغني عن كل ما ألَّفت وصنَفت
لستَ عظيماً لأنك استبدلت قلباً بقلب ، وعيناً بعين . فسيبقى القلب ذاته قارورة لن تستطيع جَبْلها في أي مختبر من مختبراتك . وستبقى العين ذاتها آلة يستحيل عليك صنعها في أيّ مصنع من مصانعك
لستَ عظيماً لأنك تستطيع أن تحوّل هذا المعدن إلى ذلك . فلن يتاح لك أن تخلق المعادن ، أو أن تجعل الأرض تأتيك بالمعدن الذي تشاء ساعة تشاء
لستَ عظيماً لأنّك ابتدعت ماكينة تحسب في ساعة ما يعجز أكبر رياضيّ عن حسابه في يوم أو في شهر . فستبقى تجهل (( الواحد )) الذي يتكرّر إلى ما لا نهاية ، ويتجزأُ إلى ما لا نهاية ويبقى واحداً . وستبقى تجهل (( النقطة )) التي عليها بنيت فنونك الهندسية
لستَ عظيماً وإن أطلت عمرك إلى الألف والألفين . فالذي يعذّبك ويضنيك في عمرك القصير سيبقى يضنيك ويعذِّبك في عمرك الطويل . والعمر عمر . فهو مهما طال لن يستغرق الزمان
لستَ عظيماً حتى بحنينك إلى الحريّة ، وشوقكَ إلى المعرفة ، وتوقك إلى الخلود . لأنك تطلب الحرية لما يستمدّ وجوده من ذات غير ذاته ، فلا يمكن أن يكون حرّاً . وهل يكون الفرس حرّاً إذا كان مقوده في يد الفارس ؟ وتطلب المعرفة من الأشياء التي لا تعرف ، لا من مبدع الأشياء المتستّر أبداً في خلاياها . وتطلب الخلود لما ليس فيك بخالد . فكأنك تطلب الخلود لغيمة في الفضاء
لا . لستَ عظيماً بما تقول وتفعل . وبما تطمح إلى قوله وفعله في دنيا الكثافات والخيالات التي لا تستقرّ على حال . ذلك كلُّه رذاذ من هبات الحياة لك . ولكنك عظيم ، وأيّ عظيم يا ابن آدم ؛ لأنك تستطيع أن تحبّ
ثمّ لأنك تستطيع أن تؤمن
ثمّ لأنك بمحبتك وإيمانك تستطيع أن تعي من أنت . وبوعيك من أنت تعي الحياة
عن صفحة مخائيل نعيمة الفيسبوك
- رجلُ الثَّلج… وياسمينةُ بيتي
- بيروت الحاسة الثامنة – جنان خشوف
- أنات حائرة أو صراع الحكم والواقع
- مئة عام من العزلة – دراسة في الواقعية السحرية وتجليات الزمن
- Nietzsche’s Philosophy of Art and Beauty: The Will to Power and the Renewal of Life