في باطن بلدة فقرا الجبلية ومحيطها، كما في ظاهرها، تتكشف مشاهد رائعة تجسّد سلسلة حضارات غزت المنطقة وغادرتها مخلفة آثاراً فينيقية ورومانية وبيزنطية وصليبية، منها: البرج الكبير والمذبح والمزار، إلى المعبد الكبير وعدد من النواويس، أهمها الجسر الطبيعي، الذي وفق ما تخبره الأساطير التجأ إليه آدم وحواء بعد أن قضما التفاحة المحرّمة، يذكر أن الجسر يعلو 58 متراً عن سطح الأرض ويمتد على طول 52 متراً، ومن تحته يتفجّر نبع اللبن، الذي تشكّل مياهه سد شبروح.
تتوزع آثار فقرا إلى ممتلكات للدولة، مثل المعبد الكبير ومعبد إله الخصب اللذين اعتبرتهما الدولة ثروة وطنية، فعملت على ترميمها مطلع سبعينات القرن الماضي من خلال بعثة ألمانية، وممتلكات خاصة للبطريركية المارونية، مثل البرج الكبير والمزار والمذبح الوثني، وهي معالم بقيت حتى اليوم بلا سياج، ما يفترض أن تبادر الدولة إلى حماية هذه المعالم، واعتبارها أيضاً آثاراً وطنية لا يجوز التفريط بها.
على ضفاف نبعي اللبن والعسل, وفي إطار طبيعي تجلله الهيبة وتسكنه الرهبة جراء إحاطته بصخور الدولوميت التي تنتصب كغابة من النصب الأثرية, موقع فقرا الأثري الذي كان مجمعاً دينياً منذ أقدم العصور, ويعتبر من أرحب المجمعات الدينية في جبل لبنان وربما أعظمها على الإطلاق.
ثلاثة نصوص عتيقة تعيد حكاية بناء الموقع الى عصور مختلفة؛ فقد نُسب بناؤه تارة الى عبد الملك سليمان في القرن التاسع ق. م, ثم الى عهد البطالسة في القرن الثاني قبل الميلاد, وفي نصوص أخرى أيضاً, أعيد بناؤه الى عصور غير محددة يلفّها الغموض.
وتفيد كتابتان يونانيتان محفورتان, الأولى على عتبة الباب الرئيسي لأحد أبراج الموقع الرئيسية, والثانية على حجر الزاوية يميناً, أن البناء قد تمّ في العام 43. أما معبد أترغاتيس فقد حفرت عليه مجموعة نقوش يونانية تحدد تاريخ بنائه في العام 49.
بني “موقع فقرا” في العصر الروماني على الطراز الكورنثي, وكان يضم مجموعة أبنية ذات طابع ديني وهي كما يلي:
– البرج الكبير: وهو بشكل مربع ويتكون من طابقين, ويقال أن سقفه كان مخروطياً على هيئة الأهرام. ويتم الدخول إليه عبر درج صغير يؤدي الى المدخل الرئيسي الذي كان جيد الإقفال بفضل بابين لا تزال آثارهما واضحة على حجارة المدخل.
ويمكن ولوج البرج عبر درج ينقسم الى مسارين منفصلين لا يلبثان أن يلتقيا عند سطح الطبقة الأولى من البناء؛ وفي الداخل, هنالك غرفة مقفلة بواسطة باب منزلق, ويلاحظ وجود فتحات في جدران البرج كافة, كانت تستعمل لمراقبة أنحاء الموقع ومحيطه.
وعلى جوانب البرج نقشان بالكتابة اليونانية يفيدان أن أهالي المنطقة قدّموا هذا البناء للأمبراطور الروماني تيبيريوس كلوديوس عام 43؛ ويعكس مضمون النقشين حالة من المناوشات والنزاعات التي عاشها الشرق تحت سيطرة الرومان خلال القرن الأول للميلاد. لذا لا يُعلم إن كانت فقرا قد بقيت تحت سيطرة الملك أغريبا أو كانت جزءاً من مقاطعة بيروت أو جبيل, إنما بقيت فعلاً تحت السيطرة المباشرة للأمبراطور كلوديوس كجزء من أراضي الأمبراطورية الرومانية. وفي ظل هذا الواقع التاريخي, قام أهالي المنطقة وعلى نفقتهم ونفقة الهيكل الكبير, ببناء البرج الذي أهدوه للأمبراطور كلوديوس, ما وضع المنطقة برمتها بمنأى عن الصراعات التي عصفت بمقاطعات الشرق كافة.
إن موقع البرج فضلاً عن هندسته المعمارية, له وظائف متعددة. فهو مركز للمراقبة, وخزنة الموقع المحصّنة لحفظ ثروات المعابد الدينية…
وفي الموقع أيضاً مذبح كبير مربّع الشكل قبالة المحل الرئيسي للبرج, ومن المرجح أنه معاصر له. ويبدو التأثر بالفن الفرعوني واضحاً في هندسة حارة الإفريز في محيط المذبح الذي رُمم في فترة الأربعينات.
– المزار: بني على قاعدة مربعة يعلوها رواق من اثني عشر عموداً يحيط بحجر كبير يحمل سقفاً مكوراً على شكل قبّة. وقد نقش على الحجر في الجهة الشرقية, شكل هلال مع أشكال أخرى تآكلت معالمها على مرّ الزمن. وتتبع هندسة بناء هذا المزار تقليداً قديماً يعود الى ما قبل التأثير الهلنستي على الشرق.
– المعبد الكبير: بني على أرض اتخذت شكل المستطيل ويعتبر المبنى الأكثر حفاظاً على معالمه الأساسية من تلك الفترة القديمة. ويتبع بناؤه نمطاً هندسياً سامياً قديماً معروفاً في مواقع أخرى قائمة في لبنان وفي بعض مناطق الشرق عموماً. ترميمه المتأخر تمّ بطريقة غير علمية أساءت للبناء الأساسي. لكن هذا الصرح بقي من المآثر الجليلة إذ عمل البناؤون فيه على نحت الصخر القائم في تلك الأرض, وجعلوه أساساً للمعبد, واستعملوا الحجارة المنحوتة كمواد لبنائها, ولم يتخذوا من الصخر جداراً للبناء الذي يفصله عنه دهليز خارجي من الأعمدة الكورنثية المدمرة. داخل الهيكل فناء داخلي حيث المذبح الذي يحيط به رواق من الأعمدة الكورنثية يزينها ملاكان منحوتان في الصخر. وتؤدي درجات عدة الى فسحة الأعمدة, ومنها الى “قدس الأقداس”. ويقال أن القسمين الأخيرين كانا مسقوفين بالخشب, وأن افريز الهيكل والمراقي التي كان يرتقيها الزوار, والسواري الماثلة في مدخل المعبد كانت فخمة عظيمة الشأن.
وقد عثر داخل المعبد علي مجموعة نقوش يونانية لم تستطع إجلاء المزيد من لغز بنائه؛ فالمقارنة المعمارية للهيكل مع بقية أبنية فقرا الأثرية تدفع الى الإفتراض بأن عملية البناء لم تتم في مرحلة واحدة بل تواصلت خلال حقبات تاريخية عدة.
وذكرت النقوش اليونانية إله الهيكل “بل غلاسوس”, الأمر الذي يدفع الى الإعتقاد بتأثير أيطوري آرامي على الموقع. فإسم “غلاسوس” يعود الى البعل الفينيقي الذي انتشرت عبادته على المرتفعات بحسب تقليد كان متبعاً.
– معبد اترغاتيس: يتبع هذا المعبد نسقاً هندسياً فريداً فهو على شكل مستطيل ذي جوانب متوازية, ويقسم الى ردهتين كبيرتين من دون أروقة, مع باب يفصل بينهما من الداخل. وقد يكون البناء كنيسة عتيقة, أو هيكلاً وثنياً قديماً كما ذكر أرنست رينان في كتابه “بعثة فينيقيا”؛ فهندسته تختلف عن هندسة الهياكل القديمة والكنائس المسيحيــة.
وقد خضع المعبد لتحولات معمارية, بالأخص في الغرفة الداخلية التي تحوّلت في العهد البيزنطي الى غرفة العماد لكنيسة بنيت قربه وظلت قائمة حتى القرن السابع. ويذهب البعض الى التأكيد على كون هذا البناء هيكلاً ينتصب فيه مذبح يشبه مذبح فينوس في بعلبك, ولكنه ليس مثمن الأضلاع, بل يتكوّن من 16 عموداً صغيراً, وقد محيت كل الرسوم والنقوش الكائنة خلف الأعمدة.
وعثر داخل المعبد على نقش يوناني يحدد تاريخ بنائه, ويفيد أن الكاهن الأكبر وأهالي المنطقة بنوا هذا المعبد وقدّموه الى ابنَي الملك أغريبا الأول: جوليوس ماركوس اغريبا الثاني, واخته بيرينيس التي كانت زوجة هيرودوس ملك خلقيس لبنان من العام 41 الى العام 48 للميلاد, كما أشير في النقش الى الآلهة اثرغاتيس التي وصفت بالعربية. وقد أسس الأيطوريون في القرن الثاني ق. م. مملكة خلقيس التي أصبحت سريعاً قوة إقليمية مرهوبة. إنما بعد سيطرتهم على الشرق العام 63 ق. م. أعاد الرومان تنظيم هذه المملكة وقسموها, بحيث أعطى الأمبراطور كلوديوس خلقيس لبنان الى هيرودوس (حفيد هيرودوس الكبير). وبعد موت الأخير في العام 49 ق. م. منحها لحفيده أغريبا الثاني الذي لم يتزوج إنما عاش مع أخته الأرملة. كل هذا يدفع الى ترجيـح سيطرة الأيطوريين على فقرا في تلك الفترة.
تنتشر حول معبد أترغاتيس, وخصوصاً لجهته الجنوبية الشرقية, المقابر المتنوعة الأشكال المحفورة في الصخور, والنواويس, والمغاور المنحوتة من الداخل والمؤلفة من حجرات مدفنية تزينها صلبان على الطراز البيزنطي, ما يعني أنها كانت تستخدم خلال الفترة المسيحية.
وتجدر الإشارة الى وجود أبنية متنوعة, خصوصاً الى جانب معبد اترغاتيس. إنما في غياب المصادر الأثرية والتاريخية والدراسات المختصة, ولعدم التنقيب في المنطقة, يظل الغموض يلف واقع هذه الأبنية ومبررات إقامتها.
ويمكن القـول أن منطقـة فقرا الأثرية قد بنيــت وتوسعــت خلال حقبات مختلفة, لكن من دون أن يكـون ممكناً تحديد زمن بناء كل من الأبنية التي ما زالت قائمة اليوم..